-->

قصة ابو زيد الهلالي - الجزء العاشر - قصة شبـيـب التبعي

قصة ابو زيد الهلالي 
الجزء العاشر
 قصة شبـيـب التبعي


( قال الراوي ):

ان بني هلال بعدما قتلوا أبا بشارة العطار حاكم بلاد صهيون، جدوا في قطع الفلوات حتى أقبلوا على مدينة الـشـام وكان الحاكم عليها شبـيـب التبعي ابن مالك، وكان رأى حلما في المنام أرعبه، فجمع أكابر الديوان والأعيان وقال لهم رأيت في منامي أنه أتى إلى هذه البلاد سباع مثل الجراد، وكان كل سبع يأتي إلى شجرة يقلعها بأنيابه ولا يبالي بالأخطار، وكان لهذا الملك وزير اسمه عميرة.

فلما فرغ الوزير من تفسير حلمه استعظم شبـيـب هذه الأمور وكان قد بلغه قدوم بني هلال إلى قرب الشام فزاد اهتماما على اهتمام، لأن أبا زيد كان عند رجوعه من تونس ومروره إلى الشام قد استخلص من دار شبيب سرية عربية واسمها قنوع العامرية لما مر به وسار بها نحو بني هلال، فتأثر شبيب من هذه الأفعال فاستدعى بنجاب وأمره أن يسير في الحال ويكشف له أخبار بني هلال، فسار ودخل على بني هلال، فأضافوه ثلاثة أيام، ورجع لعند سيده وصار يخبره بما جرى له شعرا.

فلما سمع شبيب الشعر والنظام صار الضيا في عينيه كالظلام فقال لمن حضر في الديوان، ما رأيكم في هذا الشأن لأن بني هلال حضروا إلى هذه الأطلال بعساكر كعدد الرمال، فقالوا الرأي قبل المبادرة بالقتال أن تطلب منهم عشر المال، فان أجابوك الى هذا الطلب بلغت القصد والأرب، وإلا تحاربهم وتشتتهم في البر فاستصوب شبيب رأي القوم وأرسل يطلب منهم عشر المال.

وسطر بذلك كتابا وختمه وأرسله مع نجاب الى الأمير حسن، فأخذ الكتاب وسار الى أن وصل الى الأمير حسن، أعطاه الكتاب، فلما فتحه وقرأه، قال: لاحول ولا قوة الا بالله، ثم جمع بني هلال وقال ما هو رأيكم؟ فقال الأمير أبو زيد والأمير دياب ليس عندنا جواب الا الحرب، فحينئذ قال الأمير حسن للرسول اذهب الى مولاك شبيب وقل له أني سأرسل له الجواب في وقت قريب وبعد ذهاب النجاب، نهض أبو زيد وقال اعلم أيها الملك الهمام أن شبيب ملك دمشق الشام استعد لمحاربتا والرأي والصواب ان أسير مع بعض الفرسان إلى تلك الديار لكشف الأخبار والوقوف على عدد العساكر والأبطال التي تجهزت للحرب والقتال وذلك بصفة شعراء، لعلنا نبلغ المقصود، فاستصوب الأمير حسن هذا الكلام واستقر الرأي على مسير أبي زيد ودياب وعرندس والرياشي مفرج وأبي الليث الكندي إلى تلك الديار، ليجسوا الأخبار، وفي ثاني يوم استعدوا للمسير وجدوا في قطع البراري حتى وصلوا الى دمشق الشام، فدخلوا بسلام وقصدوا الأمير شبيب حتى دخلوا عليه وسلموا عليه، وكان جالسا على كرسي مرصع بالجواهر يدهش العقل ويذهل البصائر، وحوله الأتباع والخدم، فرد عليهم السلام وقال من تكونون من العرب أيها الأجواد؟ فقالوا نحن شعراء نقصد الملوك والأمراء، فنمدحم بالقصائد الحسان ونرجع بالخلع والإحسان، وقد سمعنا بجودك ومكارم أخلاقك وحسن مزاياك، فأتينا إليك لنمدحك وننقل ثنال ونرجع مجبورين الخاطر للديار، ثم أن أبـا زيـد عدل الرباب وصار يمدحه:
يقول الفتى المدعو سلامة
بدمع جرى فوق الخدود سكيب
ركبنا وجينا ياأمير على نقا
من فوق نوق شبه ريح رهيب
فقلنا لها يانوق أين مسيركم
فقالت إلى نحو الأمير شبيب
شبيب بن شيبان بن مالك
أمير البوادي والبلاد شبيب
شبيب الذي كل البلاد عياله
ونحن يقينا من عيال شبيب
شبيب فتى لايوجد في الترك مثله
ولاربت العربان مثل شبيب
ياأمير أعطنا ولك منا الثنا
فنثني عليك عند الضحى ومغيب


فلما فرغ أبو زيد من كلامه شكره شبيب على حسن نظامه ثم أنه صرف معهم هذا النهار في الحديث والأخبار، ولما أصبح الصباح، استعد شبيب إلى الصيد مع الفرسان وابنه صقر، فالتفت شبيب إلى الشعراء وقال لهم: لماذا لا تركبون معنا؟ فقالوا هو عدم وجود الخيل، لأن مطايانا لاتصلح للركوب في الوعر والسهول، فأمر لهم شبيب بخمسة أفراس من الخيل فذهبوا مع السايس إلى الإسطبل وجعل أبو زيد ينظر في الخيول فلم يعجبه سوى جواد شبيب وهو غطاس وكان أبو زيد قصد بهذا العمل، اكتشاف خيول شبيب، فعاد السايس وأعلم شبيب بذلك الخبر، فقال له أعطه إياه إن كان يقدر يركبه، فعاد السايس إلى أبي زيد وقال له: إعلم يا شاعر العرب أن هذا الحصان هو جواد الأمير شبيب الغطاس فلا يقدر أحد منا أن يقرب منه فخذه إن كنت تقدر عليه، فتقدم أبو زيد إليه، فصهل الحصان حتى زعزع المكان، فلطمه أبو زيد بالكف بين عينيه وسرجه، وركب عليه وسار إلى عند شبيب، فتعجب منه كل العجب وقال في نفسه وحق ذمة العرب أن هذه الأفعال لا يقدر عليها الشعراء، بل صناديد الأبطال وقد تأثر من ذلك الأمر ثم أنهم ساروا في جوانب البر وصاروا يصطادون حتى صار وقت العصر، فارتدوا راجعين قبل دخول الليل.

في أثناء طريقهم، جعل شبيب ميدانا لسباق الخيل، فامتثلت لأمره الفرسان وجعلوا يتسابقون في الميدان، فعلم أبو زيد على الجميع بالسيف والسنان، حتى حير العقول وأذهل الأبصار، فرجعوا إلى البلد ونزل أبو زيد في دار الضيافة مع جماعته، وكان للتبعي رمال اسمه عكرمة، فاجتمع به على انفراد وقال له أريد أن تعلمني عن هؤلاء الشعراء، هل هم جواسيس؟

فقال السمع والطاعة، ثم أحضر الرمل وولد البنات مع الأمهات وجعل يعلم ببعض الأبيات.

فلما فرغ الرمال من الشعر، عرف شبيب فحوى الحديث والكلام، فغضب غضبا شديدا ما عليه من مزيد، وفي الحال أحضر أبو زيد ومن معه من الرجال وصاح فيهم أتيتم أيها الأشرار إلى هذه الديار لتجسس الأخبار ونسبتم أنفسكم بأنكم شعراء تمدحون الملوك والأمراء فلا بد من قتلكم!

ثم أن الأمير شبيب أمر العبيد أن يأخذوهم إلى المشنقة، فامتثلوا أمره وأخذوهم ودوروهم في المنازل والأطلال، وبعد ذلك رجعوا إلى المشنقة وأرادوا أن يشنقوهم وإذا بصقر ابن الأمير شبيب أتى ونزل عن ظهر الجواد وقطع المرس ومن رقابهم، فوصل الخبر إلى شبيب، فأحضرهم عنده في الديوان، ووبخ ولده على هذا الشأن وقال هؤلاء من بني هلال أعدائنا، أتوا إلى منازلنا ليقتلوا الرجال ويدعونا بأوشم الأحوال، قال له صقر ليس عندي خبر هذا الأمر وقد جرى وصار فشفعني في هؤلاء الشعراء ولاتبطل كلامي وتنقص بين الشباب مقامي، وإذا قتلتهم من دون سبب، فتبقى معيرة بين العرب، فقال شبيب نلقي عليهم مسائل وإذا لم يعرفوها نقتلهم، ثم أنه التفت إلى أبي زيد فقال له مرادي أحضر شعراءنا ليرموا عليك رموزا، فإن لم تعرفها فاني أقتلك وأعجل من الدنيا مرتحلك، قال أبو زيد افعل ما تريد يا ابن الأماجد، فعند ذلك أحضر الأمير شبيب شعراء بلاده وكانوا أربعة وعشرين شاعرا وكبيرهم يدعى صولجان بن ماهر، فلما حضروا أمرهم أن يرموا رموزا على أبي زيد ورفاقه فأجابوه بالسمع والطاعة، فالتفت أبو زيد إلى صولجان وقال له يا سيد الفرسان مرادي أن تبدي شعرك وقصيدك أن تأتي لنا بطعام حتى يصير بيننا خبز وملح، فأجابه بما قال وسار إلى بيته وأحضر إلى أبي زيد قصعة ملانة عصيدة وفيها ملعقة وقال كل يا ابن الكرام وادع لنا بدوام العز، فأخذ أبو زيد شقفة برأس الملعقة وذاقها فوجدها مرة مثل الحنظل قال هذا زادك لارحم الله شبابك يا ذليل يا مهان هات ما عندك من الأوزان، فعند ذلك تقدم الصولجان واخذ الرباب وبدأ يلعب حتى أطرب ذوي العقول والألباب أما أبـو زيــد فكان يرقب الكواكب، فرأى نجمه سعيدا ففرح بذلك فرحا شديدا ما عليه من مزيد، فلما رآه الصولجان ينظر في الكواكب ظن أنه ينظر الى بنات نعش فقال شعرا، فرد عليه أبو زيد بشعر فهم فحواه.

فلما فرغ أبو زيد من كلامه وشاعر طي نظامه تعجبوا من ذكاء أبي زيد وما عاد الشاعر يعرف يجاوبه فاغتاظ شبيب غيظا شديدا ما علي من مزيد وحلق ذقن الشاعر وطرده من عنده والتفت الى أبي زيد وقال له بقي عليك أن تغلب ستة أبطال ان غلبوك قتلت أنت ورفاقك، فأجابه ومن هم؟ فقال المصارعون والمشابكون والمدافعون ورمايو النشاب وحمالوا العلم وطباخو الكيميا، فقال له أبو زيد ان لم أغلبهم فإننا لا شك هالكون، ثم أنهم باتوا تلك الليلة الى الصباح، فقام شبيب واحضر كبير المصارعين وهو بطل رزين ليس له قرين، فلما رآه أبو زيد قال له ياأخا العرب دونك والطلب فلا بد أن أجعلك في التراب، فقال له المصارع دع عنك شقشقة اللسان يا ذليل يا مهان والان يظهر الشجاع من الجبان، فقال أبو زيد، اليوم عندي عيد بقتلك يا مهان، ثم نهض وأثبت الأقدام وأسرع إليه مثل الأسد الدرغام، والتقى البطلان كأنهما جبلان وحان عليهما الحين وزعق فوق رأسيهما غربا البين، قال وكان المصارع مخبئا حربة مثل الثعبان وهي شغل بلاد الروم مدخرها لمثل هذا اليوم فرآها دياب وقال: خذ بالك يا أمير من هذا الشيطان وانظر هذه الحربة التي كأنها نقمة، فقال أبو زيد رأيتها قبلك يا دياب وهذا اليوم أدعيه ملقى على التراب، ثم اصطدما وافترقا وابتعدا، ومازالا على هذا الحال مقدار ساعة من الزمان حتى هجم أبو زيد على المصارع وعرقله برجله رماه الى الأرض واتكأ على عنقه وظل كامشا عليه حتى خرجت روحه من بين جنبيه، ثم تقدم المدافق ودافق أبو زيد ساعة من الزمان، فالتقاه بهمة وعلو شأن، وضربه بالعصا على دماغه فطرش بزر مخه ومات فتقدم المشابك وشابك أبو زيد ففرك أنامله ولقطه من يده ملخها من الباط فتقدم رامي النشاب، فذهب أبو زيد ووقف في تلك الهضاب، وأما ذلك الرجل، فرشق أبو زيد أربعين رشقة فما أصابه شيء، ثم ضرب أبو زيد بنشاب فرماه على الأرض قتيلا وبدمائه جديلا، فعند ذلك تقدم حمالوا العلم فغلبهم وكذلك طباخو الكيميا طلعت طبخته أحسن من طبختهم، ثم التفت الى شبيب وقال له: يا أمير لك عندنا شئ بعد هذا الإنتصار، فاتركنا نذهب الى أهلنا، فقال له لا شك أنك عفريت من عفاريت سيدنا سليمان، ثم أمر الخدم أن يأخذوهم الى السجن، فأخذهم في الحال، ووضعوا في أرجلهم القيود والأغلال ووكلوا بهم جماعة من صناديد الرجال، وكان الأمير دياب ومن مع من الأصجاب في خوف واحتساب من القتل والعذاب، وقد قطعوا الأمل من السلامة، فجعل أبو زيد يشجعهم ويقول لهم أن الفرج قريب بعون الله السميع المجيب وأننا في هذه الليلة نذهب الى أهلنا وننال المأمول، فاطمأنوا وجعلوا يتحدثون حتى أظلم الظلام ونامت الحراس، فعند ذلك أخرج أبو زيد من الكيس حجر المغناطيس وألقاه على القيود والأغلال، فتساقطت في الحال، وقال هلموا بنا للذهاب فقد تخلصنا بإذن الله، فنهضوا في الحال وجدوا في قطع الروابي والتلال حتى وصلوا الى بني هلال وكان وصولهم عند الصباح، فدخلوا على الأمير حسن، فالتقاهم بالسرور والأفراح وقال الحمد لله على سلامتكم لأني كنت مضطرب الأفكار عليكم فأخبروني بأحوالكم وما جرى لكم مع شبيب في سفرتكم، فأخبروه بحديثهم، فشكروا الله على خلاصهم من الاعتقال وأثنى على أبي زيد نظرا لما أبداه من حسن الفعال، وبينما هم في هذا الحال الا وقد أتى عليهم مرسال من عند الأمير شبـيـب بكتاب يطلب فيه عشر المال وذلك بعدما تفقد المحابيس فلم يجدهم، فأجاب السلطان حسن بعد أن عرف حقيقة الأحوال وعرف ما عند شبـيـب من الفرسان يقول:
يقول الفتى حسن الهلالي أبو علي
فلي حربـة كالمشعـل الوقـود
ولي همة تعلوا على كل ماجد
أخلي الأعادي على الجبال شرود
تهيأ غدا أيا شبيب لحربنا
مـع كل أبـطالـك وكل جنود
فكم حاكم مثلك ملكنا بلاده
من بعد حرب يشيب المولود
تريد منا اليوم عشر أموالنا
فسوف ترى منا رجال أسود


فلما فرغ حسن من هذا الخطاب، طوى الكتاب وسلمه للنجاب وأمره أن يسير الى سيده بالعجل، فأجاب وامتثل، ولما دخل على سيده سلمه الكتاب، فلما قرأه غاب عن الصواب وفي الحال أمر العساكر والأبطال للاستعداد الى الحرب والقتال، فلما أصبح الصباح وأضاء بنوره ولاح، دقت طبول الحرب واستعدت العساكر للطعن والضرب وركب شبيب في أول الفرسان وحوله الوزراء والأعيان وساروا الى قتال بني هلال وكانت بنو هلال قد استعدت في ذلك النهار، ولما تقابل الجيشان برز شبيب الى ساحة الميدان وطلب مبارزة الشجعان، فبرز اليه أبو زيد، فلما رآه شبيب حمل عليه وأنشد يقول:
يقول شبيب التبعي ابن مالك
صرفت كل الليل بالتفكير

أبو زيد يا أبو زيد يا ولد الخنا
فأنت ردي الأصل يا طنجير

ذهبت لأرض القيروان وقابس
ترود الأرض مثل لص حقير

رجعت الى أهلك أتيت بجمعهم
أخذت قنوع والظلام عكير

وبسوء فعلك قد حبست رفقاتك
وخبثك بين الأنام كثير

فوالله إني قاتلك بمهند
وأهرق دماك مثل نهر كبير

وأقتل دياب الخيل صبحا أو مسا
وأجعل حسن من ضرب سيفي يطير

أجاب أبو زيد الهلالي سلامة
ونيران قلبي زايدات سمير

أنا أبو شيبان قهار العدا
أفك رموز العلم بالتفسير

ولا فخر للمرء الا فعاله
وفرط السخا وكل فضل شهير

أنا الرجل الذي يبرد حربته
يوم الوغا في صدر كل أمير

اليوم تنظر حربنا وقتالنا
وفعالنا حقا بلا تنكير


فلما فرغ أبو زيد من هذا الشعر والنظام، انطبق الفارسان على بعضهما وأخذا في الحرب والصدام، وكان شبيب من الجبابرة، فقاتل قتال الأسود وفعل فعالا تشيب المولود، فثبت أبو زيد أمامه كالجبل الراسي والتقاه بقلب أقوى من الصوان، فكانا تارة يتقدمان وتارة يتأخران كأنهما أسدان كاسران، وقد تعجبت من قتالهما جميع الفرسان وتعلمت منهما حقيقة الضرب والطعان، وما زالا على تلك الحال الى قرب الزوال وكان أبو زيد قد انحل عزمه وقصر، فرجع الى الوراء فعند ذلك دقت طبول الانفصال، فافترقت العساكر من الميدان ورجع أبو زيد في أسوأ حال مما شاهده من الأهوال، فسأله الأمير حسن عن خصمه، فقال أنه فارس شديد وبطل صنديد، وأني قد بارزت الأبطال في معارك النزال، فما وجدت أفرس منه في القتال ولما أصبح الصباح وأشرق بنوره ولاح، ركبت الفرسان ظهور الخيل واعتقلوا بالرماح والنصول، واصطفت الصفوف وترتبت المئات والألوف فكان أول من برز الى ساحة الميدان وطلب مبارزة الفرسان الأمير شبيب، فبرز اليه الأمير دياب وهجم عليه كليث الغاب، فالتقاه شبيب في الحال والتحم بين الفارسين القتال، الى أن أقبل الظلام وكان الأمير دياب قد أبصر في ذلك النهار من قتال شبيب ما يذهل الأبصار ويحير العقول والأفكار فلم يقدر أن ينال منه المرام، فارتد راجعا الى الوراء ثم نزل الى الميدان القاضي بدير وتصادم مع شبيب نحو ثلاث ساعات، وكان القاضي قد كل ومل وضعف عزمه وانحل، فرجع وتأخر خوفا من وقوع الخطر، فبرز إليه الأمير زيدان وتقاتل معه في ساحة الميدان، وبعد قتال شديد وحرب ما عليه من مزيد، ولى الأمير زيدان من أمامه خوفا من حربه وصدامه، ثم تقدم غانم أبو دياب وتقاتل معه القتال الشديد وثبت ثبوت الجبابرة الصناديد، الا أنه لم يكن من رجاله ولا يعد من أقرانه، فما مضى ثلاث ساعات حتى طلب الهزيمة والفرار، فبرز إليه الأمير عرندس فجال معه وصال وتقاتلا في ساحة المجال الى وقت الزوال، وكان عرندس قد ضعف عزمه، فولى هاربا، وبعد ذلك دقت طبول الانفصال فرجعت عن بعضها الفرسان والأبطال وكانت بنو هلال قد اعتراها الانذهال وخافت من عواقب الأحوال، فلما رجعت الى الخيام جمع الأمير حسن الأمراء الكرام واستشارهم في أمر شبيب فقالوا أنه فارس جبار وبطل مغوار لايصطلي له بنار هجماته هجمات الأسود وقلبه أقوى من الجلمود ومن الصواب أن نحاربه غدا بالعسكر ونترك مبارزته الى يوم آخر، بينما يكون تعب من القتال، فحينئذ تبرز إليه الأبطال، فاستصوب الأمير حسن مشورتهم وباتوا تلك الليلة على هذه النية وفي قلوبهم نار الحمية، ولما أصبح الصباح وأضاء بنوره ولاح، استعدت بنو هلال للحرب والقتال فدقت الطبول وركبت الفرسان ظهور الخيول واعتقلت بالرماح والنصول، وركب الأمير حسن وتبعته جميع أبطاله وفرسانه، وكان شبيب قد التقاهم بالعسكر، فعند ذلك حمل وصاح وحملت معه فرسان الكفاح، وفي الحال التحم القتال وكانت بينهم وقعة عظيمة، قتل فيها خلق كثير، ولله در أبو زيد والأمير دياب، فانهما هجما على الرجال وكما السيوف في الصدور والرقاب ونكسا البيارق بطعن أشد من نزول الصواعق، وفعل شبيب أيضا في ذلك النهار العجب وألقى نفسه في العطب، وداموا على تلك الحال الى وقت الزوال، فعند ذلك دقت طبول الانفصال، فرجعت الفرسان والأبطال، وفي اليوم الثاني، اصطفت الصفوف وترتبت المئات والألوف والتقت الرجال بالرجال والأبطال بالأبطال وكان يوم شديد الأهوال، انتصرت فيه عساكر الشام وأسرت فيه عدة من البنات والنسوان ولما أقبل الظلام رجعوا وباتوا في الخيام وفي الصباح برز الأمير حسن الى الميدان فبرز له شبيب.

فانطبق عليه الأمير حسن كليث الآجام فالتقاه التبعي بالحسام وتجاول معه في معركة الصدام حتى حسبهما الغبار عن العيون والأبصار، وما زال الأمير حسن يحارب شبيب حتى أبصر منه الأهوال فقال له دعنا الآن من القتال وفي الصباح نعود الى المبارزة، فتبسم شبيب وقال أنا أمهلك ثلاثة أيام، ثم رجع عن القتال، وعند رجوع حسن قالت له الجازية لم رجعت والعرب ليس لها رجعات في الوقائع والغرات، فتحمس الأمير حسن ورجع الى خصمه وطعنه طعنة نهمة وحمية فأصابته في رقبته ووقع عن ظهر الجواد فأدركه قومه في الحال ونشلوه من ساحة المجال وهو يقاسي الألم والأوجاع، هذا وقد ارتدت العساكر على بعضها البعض، واقتتلوا قتالا شديدا كثرت فيه الأهوال وجرى الدم وزاد الخوف وعظم البلا وتمددت القتلى على وجه الفلا، واستمر القتال على هذا المنوال الى وقت الزوال، وكانت بنو هلال قد حلت أسراها من الأسر والاعتقال بضرب السيف وطعن النصال، فعندها دقت طبول الانفصال فارتدت عن بعضها الفرسان ورجعت بنو هلال في فرح واستبشار على ذلك النجاح والانتصار، وأما الملك شبيب لما رأى حاله طريح الفراش، زاد عليه الخوف والارتعاش، واسودت الدنيا في عينيه ولا سيما عندما رأى الأهل والأصحاب في عويل وانتحاب، فتنهد من فؤاد متبول.

ثم غاب عن الدنيا لكثرة آلامه فوقع في قومه البكا والنحيب، هذا ما كان من أمر شبيب، وأما ما كان من بني هلال فان الأمير حـسـن جمع سادات الرجال وقال لهم مرادي هذا الصباح أبادر الأعادي بالقتال والكفاح، فقال أبو زيد تمهل فسوف تبلغ القصد والأمل وأنا مرادي عند طلوع النهار أن أدخل المدينة وأنا بصفة طبيب لعلي أجتمع بشبيب فيفرح قلبي ويطيب، فقال حسن افعل ما تريد أيها الفارس الصنديد، فعند ذلك سار أبو زيد الى مضربه ولبس أفخر الحلل وتعمم بعمامة كبيرة ولبس جبة قصيرة وغسل وجهه ببعض العقاقير، فصار أبيض مثل الثلج حتى لم يعد يعرفه أحد من النام، ثم ركب ظهر فرس أصيلة ودخل مدينة الشام وجعل يجول في الأسواق وهو ينادي أنا الطبيب أنا الحكيم، فمن فيه علة أزلتها عنه بإذن الله، وما زال يطوف ويجول وينادي ويقول أنا الحكيم أنا الطبيب، حتى وصل الى قصر شبيب، وكان لشبيب ولد مثل البدر يقال له صقر، فاتفق أنه كان هناك وسمعه فقال في نفسه أن هذا الطبيب رجل غريب ولو لم يكن من الشطار والحذاق ما كان يطوف في الأسواق، فمرادي أن يداويه لعله يشفيه، ثم طلبه فحضر وسلم عليه، فسأله: هل أنت حكيم؟ قال: نعم. قال: اذا شفيت أبي وأزلت عنه المرض، أغنيك الى الأبد، وقدمتك على جميع أطباء البلد. فقال سأبذل الجهد وأداويه ولا أخرج من هذا القصر حتى أشفيه، ففرح كل من حضر هنا بهذا الخبر وزال عن قلوبه الغم والكدر، ولم يعلموا بأن الطبيب هو عدوهم الأكبر، ثم تقدم أبو زيد الى الى شبيب في صفة حكيم وطبيب وهو يترقب الفرصة ليقتله، وكان رأس شبيب معصوبا بمنديل وهو يتنهد من قلب عليل، ففك العصبة ومسح الدم ووضع له المراهم وقال: زالت الأضرار بإذن الواحد القهار، فاتفق أن شبيب فتح عينيه فرأى أبا زيد حوله، فخاف وأيقن بالموت الأحمر، فصاح من حلاوة الروح بصوت خفيف: هذا أبو زيد! ! هذا أبو زيد! ! فقال الحاضرون ما يقول شبيب أيها الطبيب؟ قال يريد أن تملأوا السراج زيتا وتخرجوا جميعا من البيت حتى يستريح ويزول عنه البأس، لأن العليل تضيق أخلاقه بكثرة الناس، ففرحوا وخرجوا من القاعة، ولما خلي المكان، أخرج أبو زيد من جنبه السكين، وذبح شبيب من الوريد الى الوريد، ثم غطاه لفوق رأسه وخرج، فسألوه من حال شبيب فقال أنه بخير، فلا تدخلوا عليه الا بعد ساعة لبينما يكون قد صحي من النوم ولابد من أن يشفى من علته في هذا اليوم لأني عالجته بأحسن علاج، فلا تكونوا في قلق وانزعاج، فشكروه على ذلك الاهتمام ووعدوه بالخلع والأنعام، ثم ودعهم وسار، وأما زوجة شبيب وباقي الجماعة، فانهم بعد ذهاب أبي زيد بساعة، دخلوا على شبيب فوجدوه على تلك الحال، فخرجوا عن دائرة الاعتدال وعلموا أن الطبيب كان أبو زيد المحتال، فاستعظموا الأمر وأقاموا العزاء والنحيب على وفاة شبيب وهم يلعنون ذلك الطبيب، وكان لشبيب أخ اسمه الصحصاح، وكان من الأبطال، فاسودت الدنيا في عينيه وقال لا بد لي أن أتبع هذا الغدار وأسقيه كأس الدمار، ثم سار وراءه وهو يهدر كالأسد الى أن التقى به قرب طاحون، فلما نظر أبو زيد عرف أنه الصـحـصـاح وأنه يريد قتله، فدخل على الطاحون وغير لونه بالأعشاب ونزع عنه تلك الثياب، ثم خرج ووقف على الباب، فلما وصل الصحصاح اليه سأله في قلب محزون أعلمني أين صاحب هذه الفرس؟ فقال له في الطاحون فنزل عن الحصان وسلمه الى أبي زيد ثم سل سيفه ودخل الى الطاحون فلم يجد سوى الطحان هناك فضربه أورثه الهلاك وخرج في الحال وهو يظن أنه قتل أبا زيد فوجد أبو زيد على ظهر الحصان وقال له من تكون فطعنه أبو زيد بالرمح في صدره خرج يلمع من ظهره ومات، فسار أبو زيد وهو مسرور على ما فعل حتى دخل على الأمـيـر حـسن في الصيوان وحوله الأمراء والأعيان فأعلمه بما جرى وكيف قتل شبـيــب والصحصاح ورجع بالفوز والنجاح، فشكروه على ذلك الاهتمام وقالوا لا عدمناك يا فارس الصدام، فقد هان علينا الحال وبلغنا المرام، وشوف نبادر الأعداء بالحرب والصدام.

هذا ما كان من بني هلال، وأما ما كان من أهل شبيب، فانهم لما علموا بقتل الصحصاح، زاد عندهم النواح، وأحضروه لجانب أخيه، وأقاموا عليهما النحيب، فتقدمت جنوب زوجة شبيب ترثيه بهذه الأبيات:
تقول جنوب الحميرية بما جرى
بدمع جرى فوق الخدود سكيب

الأيام والدنيا كفى الله شرها
ومن عاش فيها ينظر التنكيب

فما أضحت الا أبكت بعد ضحكها
فيا لها من حسرة بعد شبيب

شبيب الذي فرقع له الرعد بالسما
وصاحت ديوك العرش مات شبيب

شبيب الذي ما ربت الترك مثله
وما ربت الدايات مثل شبيب

شبيب الذي يلقى الضيوف بفرحة
ومسرة ولو كان الزمان جديب

فيا ليت من كان السبب بفارقنا
يقتل بحد الماضيات قريب

الا ياحمام النوح نوحوا واندبوا
وابكوا على فقد الأمير شبيب

يا هل ترى الأيام عادت تلمنا
وتجمعنا به بوقت قريب


فلما فرغت من هذه المرثية، جعلت تبكي وتنوح وتلطم خدودها من شدة الأسف وتقول، والله لقد انهدم بعد شبيب العز والشرف، فبكت الناس لبكاها وعزوها ما دهاها، ثم أجلسوا شبيب على كرسي من الذهب الأصفر مرصه بالدر والجوهر، وألبسوه عدة الحرب وتقدمت البنات والنساء والأمراء والسادات، وبكوا عليه حتى كثر الصياح وارتفع البكاء والنواح، وتقدمت جنوب وقبلته بين عينيه وقالت باطل يا أبا الخنساء، لماذا أنت نايم يا مقري الضيوف؟؟ قم وانظر الى هؤلاء الأمراء الذين جاوا لضيافتك، فمالك لا تقوم بواجبهم؟ ثم سحبت خنجرا وصارت ترقص وتقول أنا من بعدك لا أريد الحياة وبسرعة جنونية أغمدت الخنجر في بطنها، فحينئذ ضج الجميع في العويل وكثرت الولاويل ثم دفنوا الثلاثة باحتفال عظيم، وأقاموا مناحة طويلة، هذا ما كان من هؤلاء، واما ما كان من بني هلال، فانهم استعدوا للحرب والقتال، فاعتقلوا بالسيوف والنصال وهجموا على المدينة بقلوب كالجبال ومكنوا الضرب على الرجال من اليمين والشمال، ونهبوا ما فيها من الأمتعة والأموال، فعند ذلك خرجت الأمراء والأعيان وابنه في جماعة من النسوان، وطلبوا من الأمير حسن العفو والأمان، فأجابهم الى ذلك الشأن، وأرسل مناديا ينادي في الأسواق بالأمان، فتوقف القتال وخرجت بنو هلال وأقامت في الخيام وبلغت المرام وزالت عنها الأوهام، وبعد ذلك بعشرة أيام ولى الأمير حسن الأمير صـقـر مكان أبيه، ثم أمر بدق طبل الارتحال، فهدموا الخيام والمضارب وركبت الفرسان ظهور النجائب، وجدوا في قطع الروابي والآكام حتى وصلوا الى القدس الشريف بعد ستة أيام، فنزلوا خارج المدينة في المضارب والخيام، وزاروا الأماكن المقدسة بكل احترام وتصدقوا على الأرامل والأيتام، ثم رحلوا منها بعد عشرة أيام قاصدين غزة بقلوب معتزة.



انتظرونا فى الجزء الحادى عشر
مع قصة السركسي بن نازب

Ayman silem
كاتب ومحرر اخبار اعمل في موقع السيرة الهلالية والتراث العربى الاصيل .

جديد قسم : شخصيات من التراث