-->

قصة ابو زيد الهلالي - الجزء التاسع - قصة أبي بشارة العطار

قصة ابو زيد الهلالي 
الجزء التاسع
قصة أبي بشارة العطار


( قال الراوي ):

لما رجع بنو هلال من قبرص واجتازوا في طريقهم ماردين أحبوا أن يذهبوا إلى الصيد فسار حين والأمير دياب وبدير مع جماعة صيادين، فصاروا يصطادون الأرانب والغزلان حتى وصلوا إلى أرض يقال لها قلعة سواكن، وإذ لاقاهم رجل عطار قدامه حمار، واضع عليه العطارة، فلما أقبلوا سلموا عليه فما رد السلام بل قال لهم: وقعتم يا أوباش لابد ما أقتلكم وأريح الدينا منكم. ثم تقدم إلى حسن وقال له: إلى أين سائر في هذه الآطلال أنت ودياب وبدير؟؟

قال حسن: إخرس قطه الله لسانك. وصاح القاضي بدير وارتمى على أبي بشارة ليفتك به فارتخت أعضاؤه وكذلك حسن، فلما نظر دياب هذه الأحوال صاح فيه اليوم يومك يا ابن اللئام، ثم أنه قوم الرمح وقال له خذها من دياب الأسد الرئبال، فأراد أن يطعنه فما نظر نفسه إلا مكتفا، فعند ذلك صاح فيهم ومشى أمامهم، فتبعوه مثل الغنم، حتى وصل إلى قلعة صهيون، فأدخلهم إلى السجن ووضع لهم الحديد والأغلال، وقال لهم: ما بقي لكم خلاص من ضيق الأقفاص، أما الذين كانوا مع الأمراء فأسرعوا عائدين فسألهم أبو زيد عن حسن وباقي الأمراء فأعلموه بما جرى لهم. فلما سمع أبو زيد هذا الكلام، غاب عن الصواب، وأقامت نساء هلال الصياح والبكاء، واجتمعت بنو هلال عند أبي زيد وقالوا: ما هذا المصاب وما يكون الجواب؟

قال لهم: قوموا بنا ندور عليهم في البراري، ونفحص عن هذه الأحوال، فبينما هم كذلك وإذا برجل في الطريق، فسلموا عليه فرد عليهم السلام، فقال له أبو زيد: ما عندك من الأخبار؟ فقال له: كنت أمس سائرا في تلك الناحية إذ رأيت أبا بشارة العطار ومعه ثلاثة من أمراء بني هلال وهم في أوشم حال، وقد أخذهم إلى قلعة صهيون ووضعهم في الحديد والأغلال وإذ كنتم ذاهبين إلى خلاصهم فارجعوا لئلا يصير فيكم مثل أبي بشارة، لأنه سحار مكار، ثم تركهم وسار إلى حال سبيله.

أما أبو زيد فقال لفرسانه والأبطال: ارجعوا إلى الأطلال، وأنا وزيدان، نكفي لهذه الأحوال، فعندها رجعت العرب، وأما أبو زيد وزيدان فسارا في تلك البراري والقفار طالبين قلعة صهيون، وإذ رأيا أبا بشارة العطار وقدامه الحمار، فلما رآهم وقف حتى وصلوا إليه فصاح فيهم ويلكم أيها الأنذال، وقعتم في أوشم الأحوال، وقعت يا أبا زيد أنت وزيدان والله لابد من أن أقتلك وأريح الناس منك. فقال له: من عرفك فينا حتى تعادينا؟
فقال: عرفتكم من قبل أن تخرجوا من أوطانكم ولا بد من أن أذيقكم الأهوال، فقال أبو زيد: سد فمك لعن الله أباك وأمك وما أنت إلا ملعون يا بايع الفلفل والكمون وأشار يهدده:
قال أبو زيد تخسا يا ردي تخسا
أنا أبو زيد حاوي جميع الأوصاف

لا بد ما أقتلك وأقتل إلى حنا
و كان عند ثلاثين ألف سياف

زيدان اسحب سيفك واقطع رأسه
واحدف إلى رقبته عن الأكتاف

عطار عمرك خلص ما عاد لك نجا
يا قانص العقل يا عديم الإنصاف

أنا أبو زيد وكل الناس تشهد لي
قرم صميدع من نسل أشراف


فلما فرغ أبو زيد من كلامه سحب زيدان حسامه وغار عليه يريد إعدامه، فما رأى حاله إلا وهو مكتوف ورأسه مكشوف، فلما رأى أبو زيد ما صار في زيدان، خرج عن دائرة الإعتدال وسحب سيفه وهجم عليه هجمة الأسد الرئبال وقال له: ويلك يا ابن الأنذال دع عنك هذه الأحوال، فلما نظر أبو بشارة من أبي زيد تلك الفعال قبض كمشة من التراب وعزم عليها ثم حدفها على أبي زيد وإذ برجليه قد يبست وكذلك يده ثم زعق في أبي زيد صوتا هائلا كأنه الرعد ورفعه في يد فإذا هو طائر بين الأرض والسماء وأما زيدان فجره ذلك الملعون ووضعه في حصن صهيون مع حسن ودياب وبدير.

فقال الأمراء هذا ملعون يأسرنا واحدا بعد واحد وصاروا في حساب وأمور صعاب، هذا ما كان منهم، وأما أبو زيد فإنه ما وعي على ذاته إلا بين بني هلال، يبكي ويضرب بيده اليمنى والشمال، فلما رأته بنو هلال بهذا الحال قالوا أبو زيد جن، ثم تقدموا إليه وحطوا القيد في رجليه وبقي على هذا الحال ثلاثة أيام لا يعرف ذاته في أي مكان، فصاروا يواسونه بالكلام ثم قالوا إلى متى هذا الحال يا أبا زيد ومن الذي عمل فيك هذا؟ فقال لهم: أين أنا ومن أنتم؟ فقالوا: نحن أهلك وأحبابك بنو هلال، فعند ذلك صحا وأنشد شعرا.

فلما فرغ أبو زيد من كلامه تقدم الأمير غانم أبو دياب يسأله عن ولديه دياب وزيدان.

ثم قال القوم: يا أبا زيد إلى متى هذا الحال وأنت قاعد يا مفضال؟ قم وسر بلا إمهال وانظر حال الأمراء والأبطال وخلصهم وأرنا عوايدك وفعالك، فقال لهم: يا قوم هذا أبو بشارة كهين من الكهان وما يقدر عليه أحد، لا من إنس ولا من جان، ولكني أستعين عليه بالواحد الديان وإن شاء الله ما أموت إلا وأنا مخلص السادات من الأسر والشدات، ثم أنه قام من ساعته وقلع ما كان عليه من ثياب ولبس صفة درويش وأخذ في يده عكازا وإبريقا وكولك، وسار يقطع البراري والقفار والسهول والأوعار، وما زال سائرا حتى أتى إلى ضيعة من حكم تلك البلاد، فبينما هو ينظر في تلك الوهاد إذ به يسمع صوت أبي بشارة ابن الأوغاد وهو ياندي على العطارة، فقال أبو زيد الله يخفي لك هذا الصوت يا ستار استرني من هذا الجبار، ثم أنه دخل خرابة وتخبى فيها من ذلك الملعون إلى أن طلع أبو بشارة من تلك الضيعة وأبو زيد يراه عند ذلك لحقه من الخلف إلى خلف حتى يقتله، فالتفت إليه وقال له أدن مني حتى أريك نفسي يا كلب يا مكار يا مخرب الديار،فلما سمع أبو زيد هذا الكلام أراد أن يهرب في الآكام وإذا برجليه قد يبستا ولصقتا في الأرض، فقال له العطار مت كمدا ولا يدري بك أحد، ثم سار وتركه فعند ذلك رف أبو زيد رأسه إلى قبلة الدعاء وباسط الأرض على وجه الماء وقال إلهي ومولاي ورجائي يا من نجيت كل الأنبياء والمرسلين نجني من هذا اللعين بجاه سيدنا الخضر عليه السلام، فما أتم كلامه إلا وقائل يقول: لاتخف يا أبا زيد ولا عليك من بأس أقبل شيخك الخضر أبو العباس عليه السلام، فعند ذلك انطلق أبو زيد من مكانه وسار قليلا وإذا بأبو بشارة العطار مقبل عليه وقال له من فكك يا غدار يا مكار؟ فقال له: يا عطار أنا عمري ما تدخلت على أحد فأرجو يا فتى أن تطلقني من وثاقي وأنت ذاهب واقتل المحابيس الذين عندك وأنا بدمهم قد سامحتك، فقال له: إذا أطلقتك وسرت إلى عند المحابيس وقتلتهم فأكون قطعت ذنب الحية وأبقيت رأسها، ولكن أنا لابد لي عن قتلك يا ابن الأنذال وقتل محابيسك بني هلال، فلما سمع أبو زيد هذا الكلام، صار الضياء في عينيه ظلاما وأشار يقول:
يقول أبو زيد الهلالي سلامة
ونيران قلبي زايدات شعال

سألتك يا رحمن يا سامع الدعا
بجاه من على الجبال قد جال

أبو بشارة ما تخاف الله يا كاهن
يا حيف تقتل أمراؤنا وبطال

لو كنت مأسور كان الأسر أهون لي
وكنت أشوف رفقتي ورجال

إلهي بحق الحرم وكعبة الغراء
وبجاه الأنبياء وكل مفضال

بأنك تجيرني من الكهين الساحر
أبو بشارة الفاجر المحتال


( قال الراوي ):
فلما فرغ أبو زيد من كلامه والحق متجلي على دعائه استجاب نداءه فأراد أبو بشارة أن يسير إلا وصوت يقول الحقه يا أبا زيد يا مفضال واسقه كأس الوبال، أنا أستاذك الخضر أبو العباس، فلما سمع أبو زيد هذا الكلام، لحق بأبي بشارة وصاح عليه وقال له: أين عدت تسير يا ابن اللئام؟ اليوم أسقيك كأس الحمام، وما عاد لك خلاص من ضيق الأنفاس. فأراد أبو بشارة أن يلتفت إليه ويسحره وإذا بكف صفعه عل وجهه فعقد لسانه وجمدت عيونه وما بقي له الكلام، فسحب أبو زيد النمشة من العكاز وطسه على هامه حط رأسه قدامه، فوقع قتيلا يتخبط في دمه، عند ذلك فرح أبو زيد وحمد الله الذي خلصه من هذا الساحر وقرأ الفاتحة وأهداها إلى الخضر أبي العباس، ثم أنه أخذ حماره ونزل عنه بضاعته ففردها ونظر ما فيها، وبعد ذلك حزمها ووضعها على الحمار ثم خلع ما كان عليه من الثياب وتزيا بزي أبي بشارة العطار وساق قدامه الحمار وقال له: الله يحرق عظام صاحبك ابن الأوغاد وسار في البراري والوهاد إلى قلعة صهيون وصاح أنا الحنون ساقي ذد كأس المنون ومعي فلفل وكمون وحنة وأساور وإبر وحلق ودهون، وحمرة وسبيداج وخطوط، أرخص لكم البضائع في هذه السفرة يا بنات! !

فتواردت عليه النساء من كل مكان، فصار يكمش ويعطيهن بدون ثمن وهو يقول لهن: لقد ربحت في هذه السفرة ربحا كثيرا.

ولم يزل سائرا حتى وصل إلى قلعة صهيون فاستقبله شخص بالترحيب والإكرام وأجلسه على مرتبة وأمر له بالخمر والشراب.

فقال أبو زيد في سره، أنا عمري ما شربته وكيف أشرب الآن؟ فقال له صاحب القلعة، وكان اسمه حنا، لماذا لاتشرب وتطرب كعادتك؟

فقال أبو زيد، لقد أقسمت يمينا أن لاأتناول الشراب أسبوعا كاملا، فقد عن على بالي قتل هؤلاء الأسارى، فقال له ونحن بانتظارك حتى تحضر وتفعل فيهم مرادك، فقال لهم هاتوا زيدان لأسقيه كأس الهوان. فلما أحضروه صاح به يا جبان أنا أسألك عن أبي زيد أين هو الآن؟ فقال له غدا يأتي ويقتلك، فقال له سأقتلك وأقتله وأقتلد حسن ودياب وآخذ منك الثأر وأكشف عني العار.

فقال له زيدان: يا أبا بشارة ليست الشجاعة والبطولة في السحر إنما الشجاعة تظهر في ركوب الخيل. هات جوادا وعدة جلاد ودع قومك كلهم يقابلوني في الميدان يا كلب يا جبان.

فقال أبو بشارة له: يا نذل من قتل ابن عمي أنت أم أبو زيد أم دياب؟

فقال زيدان لا أعرف ذلك وأنا ياما لي وقائع ومهالك، قال له زيدان أعلم أن كل الذين قتلوا ما قتلهم غير دياب، وأما أنا وأبو زيد ما قتلنا أحدا، فقال أبو بشارة هاتوا دياب ومن معه حتى ننظر، فساروا في الحال وأحضروا دياب وبقية الأبطال، فحينئذ التفت أبو زيد إلى دياب وقال له من قتل أولاد عمي؟

فان زيدان يقول أنت قتلتهم، أفـدنـي بالجواب قبل أن أعلي رأسـك بهذا الحسام! فأجابه إعلم يا أبا بشارة أن المكتوب يقرأ من عنوانه، انظر إلى كلام زيدان تحاكيه بالدرهم وهو يجاوبك بالقنطار هذا كلامه في هذه الأمصار فكيف يكون في البراري والقفار، والله ما أنحبس منه إلا أبو زيد الفراس العنيد وهؤلاء الذين عليهم الكلام، فقال أبو بشارة والله ما فيكم واحد مقصر وكلكم أنجس من بعضكم البعض، أنت مثل الحية تلسع وتخبي رأسها.

ثم قال ارموا ديابا فرموه حالا فأخذ العصا وقام ليضربه فقال له زيدان مكن يدك يا أبا بشارة، فقال دياب ويلك يا زيدان كيف يهون عليه الأمر وأبوك غانم وأخوك دياب؟ فقال أبو بشارة لزيدان هل هو أخوك؟ فأجابه نعم من فرد أم وأب ولكن اقتله لأنه هو الذي قتل رجالك وألقانا بين يديك، فقال دياب والله يا أبا بشارة صاحب اللسان غلب صاحب الإحسان والله ما يستاهل القتل غير زيدان وأبي زيد لأنهما قتلا اولاد عمك، وهذا زيدان ترباية ذلك الشيطان، فقال أبو بشارة أنت تربية أبي زيد وتجعل نفسك مسكينا، فأجاب زيدان نعم أنا تربية أبي زيد ولابد ما يعدمك روحك فقال الأمير حنا لأبي بشارة أقتل هؤلاء الأسارى فقال له طول بالك يا ملك ولا تعرف قتلهم إلا مني ولكن لاتقتلهم حتى أجيب أبا زيد ونذبحهم سوا، فلما سمع حنا كلامه قال افعل مرادك، عندها التفت أبو زيد إلى القاضي وقال أنت قاضي العرب؟ قال نعم قال أنت قلت لقومك أن يقتلوا عباد النار لأبي حتى قتلوا أمراءنا وفرساننا فقال له قتلهم حلال في كل المذاهب لأنه لا يبعبد إلا الله تعالى، فقال مرادي أرمي عليك مسائل، فقال اسأل عما شئت،، فقال أخبرني عن شجرة فيها اثنا عشر غصنا في كل غصن ثلاثون ورقة وفي كل ورقة خمس ثمرات، اثنتان لونهما أبيض وثلاث لونها أسود، فقال هي السنة والأشهر والأيام والصلوات الخمس فقال له أخبرني كم بين السماء والأرض، فقال خمسمائة عام فقال زيدان بقي عليك أن تسأل ديابا وان ما عرف يجاوبك اقطع رأسه فقال دياب ويلك يا زيدان أما أنا أخولك لا شك أنك ابن لئام أنت وأبو زيد قتلتم بدريس فان قتلوكم يكونوا أخذوا ثأرهم وأشار يقول:
دياب غنى قصيدا من ضمائره
ودمع العين عالخدين طوفان
يا أهل المروءة اعفو اليوم عن قتلي
ان كنت تقتل قوم اقتل زيدان
هذا وأبو زيد قتلوا أعمامك
وخلوا الفوارس في بلا وأحزان
ونحن ياأبو بشارة قوم اقتلنا
أنا وبدير مع ابن سرحان
وان كان زيدا ما يعرف سؤالك
مايعرف اللغز إلا أخي زيدان
واقتل أبو زيد الهلالي سلامة
اقتله يا أمير بحد يمان
أنت صاحب العزة والمجد والعلا
واجمع عليهم يا أمير فرسان
ترمى علينا مسائل لانعرفها
أنت صاحب الصيوان والعمدان


فلما انتهى دياب قال أبو بشارة أنت تقول ما قتلته وحسن والقاضي وزيدان يقولون ما قتلوا أحدا، ومرادي أعلم من الذي قتلهم أخبروني وإلا قتلتكمفي الحال، فقال له دياب ما أحد قتل أعمامك سوى أبي زيد والأمير زيدان ويلك يا دياب من قتل بدريس والخزاعي غيرك! فأنت تعمل عمايلك وتتهمنا، ثم أنشد يقول:
قال زيدان قصيدة من ضمايره
أبيات كالدر موزونة بميزان

وحق عيسى وموسى والنبي محمد
قولي صحيح ما فيه بهتان

دياب هو الذي قتل ابن عمك
قتل بدريس بسيفه وسنان

أيضا قتل الخزاعي ما اختشى منه
أكيد ياأبو بشارة ما أنا وهمان

حنا يا ملك صهيون قوم اذبحه
واجعل دمه فوق الثرى غدران

بحياة رأسك تشفي خاطرك منه
هذا يقيم الفتن كأنه الشيطان

وهذه المسائل يحلها دياب بسرعة
وأن ما عرفها اجعله اليوم قربان


فلما فرغ زيدان من كلامه والجميع يسمعون نظامه، فقال حنا كيف يا أبا بشارة دياب يقتل أهلنا ورجالنا وأنت ساكت عنه بحياتي عليك تشفي خاطري منه، فقال ارموه تحت الضرب، فرموه وقام أبو بشارة والعكاز في يده ومال عليه حتى كسر أجنابه، والتفت إلى القاضي وقال له: مرادي أرمي عليك مسائل ان ما أحببت عنها ضربتك مثل رفيقك، فقال له سل عما تريد، فقال أخبرني كم طيرا نزل بالكتاب؟ فقال له تسعة: الذباب والنمل وطير الأبابيل والجراد وطير عيسى وهو الخفاش والغراب والهدهد والصفا واللهو وهو السمك، قال أخبرني عن طير يمني ويحيض وعن شئ إذا حبس عاش وإذا شتم الهوى مات، فقال له أما الطير فإنه الوطواط وأما الثاني فهو السمك ثم أن القاضي التفت نحو أبي بشارة وقال مرادي أسألك سؤالا قال سل عما شئت فقال أخبرني عن شئ كان حلالا ثم صار حراما؟ فقال له البيضة حلال وإذا وضعت تحت الفرخة صارت حراما، فقال القاضي أخبرني يا أبابشارة عن رجل قام إلى الصلاة سلم عن يمينه وجب عليه مائة دينار وسلم عن شماله طلقت زوجته ونظر إلى موضع سجوده بطلت الصلاة.

( قال الراوي ):
فلما فرغ من كلامه والقاضي بدي نظامه، فقال له عفاك الله يا أمير على هذا العلم، لكن يا حيف كيف تكون عابد النار ويكون عندك هذا العلم ! ؟
فضحك وقال يا قاضي خلص روحك والا أقتلك أنت ورفقاءك، فقال القاضي أريد أن أسألك سؤالا فقال قل ما شئت قال أخبرني عن خمسة أرواح أكلوا وشربوا وليس لهم أم ولا أب، فقال له أنا ماعرفت سؤالك ثم التفت أبو بشارة إلى رفقائه وقال أجيبوا سؤال هذا المسلم، فقالوا لم نعرف سؤاله فقال ياقاضي ما عرفنا سؤالك فاشرحه لنا وخذ لك خمس دجاجات محشيات رز وصنوبر، وكان أبو زيد مراده يطعمهم لحما حتى ترد روحهم إليهم، فقال له بدير يا أمير هؤلاء هم آدم وحواء وكبش اسماعيل وعصا موسى وناقة صالح فقال أبو زيد أخبرني عن موضع لايجوز فيه الصلاة، فقال له ظهر الكعبة، فأمر أبو زيد بأخذهم إلى موضوعهم فأجابوه بالسمع والطاعة وأما أبو زيد رتب لهم كل يوم خمس دجاجات ومازالوا على هذا عدة أيام.
وفي ذات يوم من الأيام قال أبو زيد يا أمير حنا مرادي أسير إلى بني هلال وأقتل أبطالهم ورجالهم وأدعهم بأوشم حال وأقتل أبازيد ونبقى ندبر أمرا في هلاك الجميع ثم أشار يعلمه في هذا القصيد يقول:
هذه المحابيس يوم العيد نذبحهم
وأجعل دمـاهـم في الأرض طوفـان
وجيب أبو زيد الماكر وأشنقه
ويشوفوا العـذاب أشـكال وألـوان
وحياة ديني لا جعل قتله شهرة
وأجلي صدى القلب وأكشف الأحزان


فلما فرغ أبو زيد من كلامه والملك حنا يسمع نظامه قال افعل ما تريد، فقال أبو زيد مرادنا في هذه الليلة أن نعمل كيفية فقالوا حبا وكرامة وما كان إلا برهة من الزمان حتى حضر الخمر فقالوا لاأحد يسقينا غير أبي بشارة، لأن يده مباركة فقام المذكور وصار يسكب الخمر ويسقيهم حتى سكروا فتركهم أبو زيد وسكر عليهم الباب وسار حتى وصل إلى أمراء بني هلال وفتح باب السجن ودخل عليهم وقال: قوموا! ولما رأوه ارتعدوا منه وقالوا نحن في جيرتك يا أبا بشارة فقال لا تخافوا أنا لست أبا بشارة أنا أبو زيد وعليكم الأمان فقالوا لله درك يا أبا شيبانن ولولاك متنا في هذا المكان ولكن احذر من أبي بشارة لربما يعرفك! فقال لهم كونوا براحة بال من هذا الأمر ولازم أذيقه كأس الحمام فطيب خاطرهم ورفع عن وجهه اللثام وحدثهم بما جرى بينه وبين أبي بشارة وبما فعل بهم، فلما سمعوا منه هذا الكلام، شكروه فعند ذلك تقدم إليهم وفكهم من وثاقهم وأخذوا يقطعون البراري والآكام، حتى وصلوا لقومهم ففرحوا بهم فرحا شديدا ما عليه من مزيد وطلعوا لاقوهم بالطبول والزمور وشكروا الأمير أبا زيد على تلك الفعال التي تعجز عنها الصناديد الأبطال وسلموا عليهم وقدموا لهم الطعام.

( قال الراوي ):
هذا ما كان من أمر بني هلال وأما ما كان من أمر حنا والأبطال فظلوا سكارى إلى الصباح تفقدوا الأسارى، فما وجدهم وفتشوا على أبي بشارة فما وجدوه فحينئذ علموا القضية ثم صاح حنا في الفرسان وأمرهم أن يركبوا الخيل فركبوا الخيل فركبوا ظهور المهارة وجدوا في قطع الصحارى طالبين بني هلال ومازالوا مجدين في سيرهم حتى قاربوا الأرض التي فيها بنو هلال، فقال لهم الوزير وأخوه مرقص، خذوا أهبتكم للقتال، واستعدوا للحرب والنزال، فقال حنا وأين هم بنو هلال؟ فقال جرجس إذا قمنا هنا إلى وقت السحر وسرنا بلا مهل نصف النهار، نصل إلى بني هلال، وفيما هم على ذلك وإذا بخيل بني هلال طلعت ولمعت رماحها في شعاع الشمس وفي أوائلها أبو زيد ومن وراه دياب وحسن والقاضي وزيدان وفرسان الحرب والطعان، فتبادرت اليهم عساكر جرجس وحنا وصاحوا بهم فارتجت لصياحهم الوديان فحمل عليهم دياب بدون جواب فتلقاه فارس يقال له الدهقان وتجاول هو وإياه ساعة من الزمان، فحكم دياب عليه السنان وطعنه في صدره خرج يلمع من ظهره وكان معه عشرة من الفرسان، فلما نظروا ما حل به، حملوا على دياب فتلقاهم كأنه الأسد وفي أقل من ساعة قتل سبعة فرسان وانهزم الباقون وهم ينادون أنقذونا من الجن، فقد حل بنا العطب وأنت قم يا حنا وقاتل الجان فقد برز إلينا من هؤلاء القادمين شيطان بصورة انسان، فقتل مقدمنا دهقان وسبعة من الفرسان، فلما سمع حنا هذا الكلام، صعب عليه وكبر لديه وقال لهم كأن هؤلاء القوم ماعرفوكم ولو عرفوكم ماكانوا حاربوكم وإن صدقني حزري فما هذا الجيش إلا مع أبي زيد وأظن أنه لما خلص الأسرى سار إلى العرب واتانا للطلب والآن يحل بهم العطب ثم أنه غار عليهم ولما وقعت العين على العين علا الصياح من الفريقين ووقع السيف بين الطائفتين ونادى حنا تظنون أني أترك لكم مالي وما قتلتم من رجالي اليوم أبلغ منكم مأربي وآمالي فلما سمع أبو زيد كلامه قال له ويلك يا فاجر لمثلي تفزع هؤلاء الأنذال وأنا أبو زيد قدم الأفيال! ثم أمر رجاله بالحملة فحملوا من غير إمهال ووقع بينهم القتال ساعة من الزمن فوقع بقوم حنا الفناء والدمار وخا منهم الأمل وأيقنوا بحلول الأجل، وخاضت بنو هلال الغبا وأبروا الرقاب وطعنوا الصدور وقاتلوا قتال الجبابرة فلله در أبو زيد وما فعل ودياب وقد استقتل وسطا زيدان سطوة البطل ونزل الأمير حسن بين تلك الأمم حتى التقى في الوزير مرقص أخو جرجس فرآه ينخى الفرسان، فأقبل عليه وطعنه بصدره بالرمح، خرج يلمع من ظهره، فما نظرت قوم حنا إلى مرقص وهو قتيل، تصايحوا على حسن وأسعروا نار الحرب وسالت الدماء وتطايرت الجماجم وخلت السروج من ركابها وكحلت الأجفان بموارد العما وثبتت عسار الملك حنا واجتهدت برد أعدائها فما قدرت، بل هالها ما رأت وانحلت عزائمها وتفرقت، ولم يزل السيف يعمل والدم يجري إلى أن أمسى المساء، فعند ذلك دقت طبول الإفتراق وكفوا عن الحرب وكل فريق ذهب إلى مكانه، أما عساكر حنا فصاروا يقولون أن كان الأمر على هذا الشأن فهذه مصيبة لاترد إلا بكثرة الفرسان وأما بنو هلال فإنهم هنأوا بعضهم بعضا بهذا النصر وباتوا تلك الليلة مسرورين ولما أصبح الصباح نهضوا للحرب والكفاح وإذا بالوزير جرجس بقلب لايهاب وقال له لو لم تكن جاهلا لما دخلت هذه الأوطان وطلبت قتالنا في شرذمة من الفرسان فسلم نفسك قبل الفوات، فضربه دياب على هامه، فلما نظر ملكهم حنا إلى وزيره وهو قتيل، صاح في قومه ائتوني بهذه العصابة القليلة حتى أشفي غليلي فحملوا عليهم من كل جانب، فالتقتهم بنو هلال كالأسود وانطبقوا على بعضهم البعض وغطت الدماء وجه الأرض وأبو زيد ينثر الرؤوس ويبلي الفرسان بعد وجودها بالعدم فوقع في معسكر حنا التقصير ولما نظر إلى عساكره قد انكسرت وبنو هلال قد انتصرت، نادى في العساكر يشجعهم على الثبات، فانطبقوا على بني هلال انطباق الليالي على الأيام وحمل حنا بأوائلهم وأخذ ينخى الفرسان فألقى به أبو زيد فحمل عليه وضربه بالحسام بين عينيه، خرج من بين فخذيه وأما دياب وبقية الفرسان فإنهم فرقوا الكتائب وأظهروا العجائب ولما رأت عساكر الأعداء ما حل بملكها من الدمار ولت الأدبار وركنت إلى الفرار والتجأت إلى القلعة، فتبعهم أبو زيد والفرسان فطلبوا الأمان فأعطاهم الأمان ورتبوا عليهم الجزية في كل عام ورجعوا إلى مضاربهم كاسبين غانمين وفرق الأمير حسن ما غنموه على الجميع وأقاموا على شرب القهوة وأكل الطعام مدة ثلاثة أيام، وبعد ذلك صمموا على الارتحال فهدمت الخيام وانتشرت الرايات والأعلام وركبت الفرسان ظهور الخيل والنساء والبنات في الهوادج، وجدوا في قطع البراري والآكام حتى وصلوا إلى حمص، فأقاموا فيها خمسة أيام وكانت تأتيهم الهدايا من جميع الولاة والحكام، ثم ارتحلوا إلى بعلبك ومنها إلى زحلة، فطابت أيامهم لأنهم كانوا يصرفون الأوقات في السرور والطرب، ثم ساروا قاصدين مدينة الشام فوصلوا إليها عند الظلام ونصبوا بقربها المضارب والخيام.




انتظرونا فى الجزء العاشر
مع قصة شبـيـب التبعي
Ayman silem
كاتب ومحرر اخبار اعمل في موقع السيرة الهلالية والتراث العربى الاصيل .

جديد قسم : شخصيات من التراث

إرسال تعليق