قصة ابو زيد الهلالي
الجزء الثالث
قصة الدبيسى بن مزيد
( قال الراوي ):
لايقدر العواقب ولا يخشى حلول المصائب، وكان في الشجاعة والفروسية في طبقة علية يفتخر بنفسه ويفضل ذاته على جميع الفرسان في ساحة الميدان ويقول انه اذا ركب الجواد لا يوجد من يقاومه في الحرب والطراد، ولو كان ابو الفوارس عنترة بن شداد، وكان له اربعة وزراء يركن اليهم ويعتقد في اموره عليهم، وهم مقلد وهمام وراشد وسلام وله ولد اسمه مزيد قد سماه على اسم جده وكان يحبه كثيرا، ومن شدة محبته فيه اراد ان يزوجه بابنة اخيه فجمع وزراءه واخبرهم بما قد صمم عليه فاجابو على ذلك المرام ما عدا الوزير همام، فانه كان صاحب راي وتدبير فنهاه عن ذلك في الوقت الحاضر، واعلمه بقدوم بني هلال الى تلك البلاد بالجيوش والعساكر، فانذهل الدبيسي وحار في امره وبينما هو مجلسه دخل عليه الرعيان واخبروه بقدوم بني هلال وانهم ملأوا الأرض بجيشهم فاستشار الدبيسي وزراءه فاشاروا عليه بان يرسل من يستطلع عددهم، فارسل العبد راشد الى مضارب بني هلال، فانذهل مما راى من كثرة الرجال والابطال والفرسان ورجع الى الدبيسي واخبره بما راى فزاد خوفه وفزعه فاستدعى اليه الوزراء واخبرهم بذلك، فلم يجبه احد بكلام، فقال لهم ما بالكم لا ترون الجواب فقال الوزير راشد انه من الواجب ان ترسل لهم كتابا تامرهم بدفع عشر المال مع النوق والجمال، فان امتنعوا عن ذلك نقاتلهم في الحال ونشتتهم في البراري والتلال، فاكتب لهم بهذا الصدد وانا آخذه اليهم وآتيك بالجواب، فاستصوب الملك رايه وكتب لهم كتابا يقول فيه:
يقول الدبيسي والدبيسي مزيد
بدمع جرى فوق الخدود بدود
الا ياغاديا على متن ضامر
تشابه غزالا بالفلاة شرود
اذا جيت عند الهلالي ابو علي
اعطيه مكتوبي تنال سعود
الا يا حسن اسمع كلامي واعتبر
وافهم مني غاية المقصود
فان كان قصدك تجوز بلادنا
فارسل لنا عشر مالك ترود
ارسل لنا الفين حمرة سليلة
والف جواد يامير هدود
والفين سيف يا أمير مسقطة
والف درع من عمل داود
وارسل لنا الجازية ام محمد
مع الست عليا بغية المقصود
وارسل لنا معها بنات امارتك
واحذر تخالف ولا تكون حقود
وان كنت لا تدفع لنا ما ذكرته
فارجع لأرضك واياك تعود
ثم ختم الكتاب واعطاه للوزير راشد، فاذه وسار حتى اشرف على بني هلال فنزل من على الحصان فسلم على السلطان، وعلى باقي الأمراء فردوا عليه السلام والتقوه بالترحاب والاكرام، وامر له بالجلوس فجلس بقربه وسال عن اسمه وعربه فاعلمه بواقعة الحال وعن سبب حضوره الى تلك الاطلال ثم اعطاه الكتاب، فاخذه الأمير وقراه، ولما وقف على حقيقة فحواه غضب الغضب الشديد لكنه اخفى الكمد واظهر الجلد، ثم امر الغلمان ان ياخذوا الوزير الى دار الضيافة، ولما خرج من الديوان التفت اللا الأمراء والأعيان واطلعهم على خطاب الدبيسي الذي طلب فيه عشر المال، فقال ابو زيد انه من الصواب ان تقول للدبيسي ان يمهلنا عشرة ايام ونحن نرسل له طلبه بالتمام ومتى انقضت المدة ولح في الطلب تقول له ليس عندنا مال ولا ذهب سوى الحرب والقتال في ساحة المجال، وبهذه الحال تكون فرساننا قد استراحت من تعب الطريق.
وتبادل الدبيسي وحسن الحوار شعرا، ثم ان حسن طوى الكتاب وختمه في الحال وسلمه الى الوزير فاوصله الوزير الى الدبيسي ودخل وسلم عليه واعطاه الكتاب ففتحه وقراه وعرف ما حواه ففرح واستبشر وايقن بالنجاح وبلوغ الوطر، ولما انتهت العشرة ايام لم ترسل بنو هلال الموال، قال الدبيسي للوزير ها قد مضت المدة المعينة ولم نقف على افادة ولا وردت الأموال، فيجب ان تسير اليه وتطلب منهم ان يبادروا بارسالها في الحال والا حاربناهم وانزلنا بهم الوبال فامتثل الوزير امره وسار الى صيوان الأمير حسن ودخل وسلم عليه، ثم جلس قليلا وبعد ذلك طالبه بالمال، ولامه على ذلك الاهمال، فقالت السادات ارجع الى مولاك وقل له ليس عندنا مال ولا نوق ولا جمال، غير ضرب السيف وطعن النصال، فاغتاظ الوزير من هذا الكلام ورجع الى مولاه واخبره بما سمعه من القوم فزاد غيظ الدبيسي، وامر الرؤساء والقادة بجمع العساكر والاجنا، فعند ذلك دقت الطبول وركبت الفرسان ظهور الخيل واعتقلت بالرماح وخفقت الرايات وركبت الابطال باربع مائة الف مقاتل.
( قال الراوي ):
فلما ركب الدبيسي ومعه العسار والاجناد، طالبا ديار بني هلال، اقترب منهم فالتقوا به ودنو من بعضهم، فبرز من فرسان الدبيسي فارس كانه الاسد الكاسر اسمه الامير خاطر، فبرز اليه دياب فقال له: من تكون من بني هلال؟
فقال: انا دياب المصادم وصاح فيه؛ وهجم عليه فالتقاه الفارس كالاسد الكاسر، وجرى بينهما حروب واهوال تشيب رؤوس الاطفال وبعد ذلك اختلف بينهما ضربتان قاطعتان، وكان السابق الأمير دياب لأنه اعلم في اصول الحرب واخبر في مواقع الطعن والضرب، فوقعت الضربة على هامه فقدته نصفين، ثم سال وجال وطلب مبارزة الابطال، فبرز اليه فارس آخر فقتله وثان جندله وثالث عجل الى المقابر مرتحله، وما زال يبارز الفرسان والابطال ويمددها على وجه الرمال الى وقت الزوال، دقت طبول الانفصال وبات الفريقين يتحارسان تحت مشيئة الرحمن، ولما اصبح الصباح واشرق بنوره ولاح، برز الأمير دياب الى الميدان وطلب مبارزة الفرسان، فبرز اليه الوزير راشد، فالتقاه الأمير دياب بقلب كالحديد، ثم التقى البطلان كانهما جبلان او اسدان كاسران، وحان عليهما الحين وغنى على راسيهما غراب البين ولم تكن الا ساعة من الزمان، حتى استطال عليه دياب في الميدان وطعنه بالرمح في صدره، خرج يلمع من ظهره فوقع على الارض قتيلا وفي دمه جديلا، فلما قتل الوزير راشد هجمت جموع الدبيسي بقلب واحد فتلقتهم بنو هلال بقلوب كالجبال واشتد بين العسكرين القتال، وعظمت الاهوال، فما كنت ترى الا وقع السيوف على السيوف وقتال يشيب الاطفال، وما زال القوم على تلك الحال وهم في اشد القتال الى وقت الزوال، فعد ذلك دقت طبول الانفصال فتاخرت عساكر الدبيسي خاسرة ورجعت بنو هلال ظافرة، وفي ثاني الايام دقت طبول الحرب والكفاح، فركبت الفرسان واعتقلت بالسيوف والرماح وبرز الأمير دياب فصال وجال في ساحة المجال، وطلب مبارزة الأبطال فبرز اليه الوزير محمود فالتقاه الأمير دياب بقلب شديد.
ثم ان الوزير هم على دياب فالتقاه دياب بقلب شديد وهجم عليه هجوم الصناديد، واشتد بينهما القتال في ساحة المجال، فاختلف بين الاثنين ضربتان قاطعتان وكان السابق الوزير محمود، فغطس دياب تحت الخضرا فراحت الضربة خائبة، ثم انتصب الأمير دياب وهجم عليه سبع الغب فضربه بالسيف عل هامه، فقطعه نصفين وكان له اخ يدعى الهداف، فلما راى اخاه قد مات زادت عليه الحسرات فهجم على الأمير دياب لياخذ بثأر اخيه فالتقاه الأمير دياب في الميدان بقلب اقوى من الصوان، وجرى بينهما حروب واهوال تشيب رؤوس الاطفال، واستمرا على تلك الحال وهما في اشد القتال، الى ان ولى النهار واقبل الليل، فوقفا عن القتال وباتت العساكر في البطاح، ولما اصبح الصباح دقت طبول الحرب والكفاح وبرز الهداف الى الميدان وطلب مبارزة الفرسان، فبرز اليه دياب وصدمه كليث الغاب، فالتقاه الهداف وهجم عليه الاسد الرئبال، وما زالا في اشد قتال وطعان يذهل العقول الشجعان، الى ان انتصف النهار وكان ان استظهر عليه دياب وضربه على عنقه بالسيف البتار فقطعه نصفين والقاه في ساحة المجال، فلما رات جموع الدبيسي ما حل بوزيرها، هجمت على دياب، فعند ذلك هجمت بنو هلال من اليمين والشمال، والتقت الرجال بالرجال، وجرى الدم وسال من شدة الحرب والقتال، وما زالوا على تلك الحال الى وقت الزوال، فدقت طبول الانفصال وباتت بنو هلال في سرور، وبات الدبيسي في قلق وضجر لأنه قد قتل الشجعان الملك الدبيسي، فصال وجال في ساحة المجال ونادى اين فرسان بني هلال، فلتبرز الآن الى ساحة القتال، فما تم كلامه حتى صار الأمير دياب قدامه وانشد شعرا يهدد به الدبيسي فاغتاظ الدبيسي منه، ورد عليه فاغتاظ دياب بدوره وانطبق عله، وفعل الدبيسي مثل ما فعل واخذا في الحرب والقتال وجرى بينهما عجائب واهوال، الى ان ولى النهار واقبل الليل بالاعتكار، فافترقا عن بعضهما البعض وعند رجوع الأمير دياب من معركة الصدام التقاه الأمير حسن باعزاز واكرام وشكره على ما فعل، وقال له لا تنزل غدا الى الميدان لأن لك عدة ايام في الحرب والصدام والدبيسي مرتاح ثم ختم الكلام بهذا الشعر والنظام:
قال الفتى حسن الهلالي ابو علي
الدمع من فوق الخدود سيولا
يامرحبا بك يا دياب الغانم
يا فارس الفرسان يوم الهولا
يا فارس الفرسان يا ليث العدا
يا ليت عمرك يا امير يطولا
يا امير انك قد قتلت لراشد
وسلام اضحى ميتا مقتولا
اما الفتى محمود ولى وانمحى
واخوه هدافا غدا مجدولا
فقهرتهم يوم الوغى حتى غدوا
قتلى بحد الصارم المصقولا
واليوم قد نزل الدبيسي صادمك
في حومة الميدان مثل الغولا
يا امير دع غيرك في غدا ينازله
فاسمع كلامي وافهم المنقولا
اخاف توقع يا دياب بغدره
تضحى صريعا في الفلا مقتولا
( قال الرواي ):
فلما فرغ الأمير حسن من شعره ونظامه وفهم دياب فحوى كلامه، توقف عن رد الجواب فقال له حسن علامك يا دياب لا ترد الجواب فقال ارجو ايها الهمام ان لا تمنعني عن هذا الطلب وان قتلت فروحي فداك فاني لااخشى الموت في قتال اعدائك فشكره حسن وقبله في صدره وقال له: انا ما تفوهت بهذا الكلام الا لما وجدتك تعبان وما دام الامر كذلك فابرز نهار غد وقاتل خصمك واتكل على الله.
ثم باتوا تلك الليلة في سرور وانشراح ولما اقبل الصبح واشرق بنوره ولاح، دقت الطبول وركبت الفرسان ظهور الخيول واعتقلوا بالرماح والنصول، وتقدموا الى ساحة الميدان وكان اسبقهم الأمير دياب، ولما صار في معركة القتال طلب الدبيسي، فانحدر اليه فالتقاه كسبع الآجام، واخذ معه في الحرب والصدام واشتد بين البطلين القتال وعظمت الأهوال، وكانا تارة يتقدمان وتارة يتاخران وكانت عيون الفرسان شاخصة اليهما ومازا على تلك الحال الى وقت الزوال، فدقت طبول الانفصال فافترقا على سلام ورجعا الى الخيام، ولما اصبح الصباح ركب الأمير دياب فتقدمت اليه ابنته وطفا وهي تبكي بدموع غزار، فتعجب من ذلك وقال لها اعلميني بما اصابك قالت مرادي ان تتوقف هذا اليوم عن قتال القوم فقد رايت حلما في المنام اصبحت منه في اوهام وقصت خكاية حلمها شعرا، فقال لها: لا تخافي من هذا المنام فانه اضغاث احلام، فلا بد لي من الحرب والصدام فاذهبي الى خيامك ولا تخافي، فرجعت الى الخيام وتقدم دياب الى معركة الصدام فوجد الدبيسي بانتظاره، فصالا وجالا في ساحة الميدان واخذا بالضرب والطعن حتى حيرا الأذهان، فاختلف بين الاثنين ضربتان قاطعتان، وكان السابق الأمير دياب فابطلها الدبيسي بمعرفته ثم هجم على دياب كسبع الغاب وطعنه بالرمح طعنة قوية فجاء الرمح في فخذه فسالت دماء ويئس من الحياة، واراد الدبيسي ان يعجل فناه، واذا بفارس من بني هلال قد اقبل كانه قطعة من جبل وهو يهدر كالأسد، فخلص دياب من يد الدبيسي واعاده الى المضارب، ثم اقتحم الصفوف والمواكب، وهو يصيح وينادي اتاكم أبو زيد ليث الأعادي، وجعل ينخى بني هلال على الحرب والقتال فحملوا على جيش العدا من كل جانب، فعند ذلك حملت العساكر على العساكر وتقاتلوا بالسيوف والخناجر وحمل حسن بن سرحان وتبعه السادات والأعيان، ولم تكن ساعة من الزمان حتى اشتدت الأهوال وتمددت الأبطال على وجه الرمال وما زالوا في أشد قتال الى وقت الزوال، وكانت عساكر الدبيسي قد استظهرت في ذلك النهار واسرت عشرين فارسا من بني هلال الأخيار من جملتهم الامير عرندس والرياشي ومفرج والهدار، فلما شاهد حسن تلك الأهوال خاف على بني هلال من الهلاك والوبال فلما نزل في المضارب جمع قادة المواكب واخذ يستشيرهم بالقصيد.
فرد عليه ابو زيد وفهم الامير حسن فحوى مرامه فاستحسنه مع جميع السادات. هذا ما كان من بني هلال واما الدبيسي فانه عند رجوعه من القتال، كبرت في نفسه واحضر الاسرى بين يديه وتهددهم بالقتل والدمار، فوجدهم لا يبالون بالاخطار فارسلهم الى الحبس بعد ان شفى منهم غليل النفس، ولما اصبح الصباح واشرق بنوره ولاح،برز القاضي بدير الى الميدان وطلب مبارزة الفرسان، فبرز اليه فارس يقال له جاسر فحمل على بعضهما البعض وتجاول في الطول والعرض وتضاربا بالسيوف وتطاعنا بالرماح ولم يزالا في حرب وقتل وطعن الى قرب الزوال.
وكان القاضي قد استظهر على جاسر وهجم عليه كالاسد الكاسر وطعنه بالرمح في صدره خرج يلمع من ظهره، فوقع على الارض يتخبط بعضه ببعض ثم هجم آخر فقتله وعجل من الدنيا مرتحله، فعند ذلك دقت طبول الانفصال فرجع القاضي من معركة القتال فالتقته بنو هلال بالاكرام والاجلال وهنأته بالسلامة من الوبال، وباتوا تلك الليلة الى أن اصبح الصباح فتواثبوا الى الحرب والكفاح، فبرز من قوم الدبيسي فارس يقال له تميم، وطلب فتال الفرسان فبرز اليه الامير عقيل وهو اخو ابو زيد، فصدمه تميم صدمة جبار واشار يقول شعرا، فرد عليه عقيل، ولما فرغ من شعره حمل عليه واخذا في الصدام والعراك واشتبكا اشد اشتباك، وما زالا على تلك الحال وهما في اشد قتال، وكان عقيل قد استظهر على خصمه اشد الاستظهار، فضربه على عنقه بالسيف البتار وذا براسه قد طار، وكان له اخ اسمه ناصر فلما رأى ما حل باخيه هجم على عقيل هجمة الاسود، فالتقاه عقيل بقلب كالجبل والتحم بينهما القتال، وكان عقيل يريد سرعة الانجاز فلاصقه وضايقه وضربه بالحسام على رأسه فشقه ووقع على الفلاة وعدم الحياة، وكان الوقت قريب لزوال فدقت طبول الانفصال ورجع عقيل الى بني هلال، فالتقاه قومه بالكرامة وهنأوه بالسلامة وشكروه على فعاله وزادوا في اكرامه واجلاله، واما الدبيسي بن مزيد فقد تنغص عيشه وتنكد. فاجتمعت الاكابر والعمد ودخلوا على اميرهم وتمثلوا بين يديه وقالوا الى متى هذا الحال،فقد قتل منا عدة ابطال، فجعل يوعدهم في الانتصار، وثاني الايام برز الدبيسي الى الميدان وطلب مبارزة الابطال، فبرز اليه غنيم ابن مفلح، وكان غلاما جميلا فقال له الدبيسي من تكون يا غلام حتى تبرز في معركة الصدام، ثم صدمه بقوة واهتمام، وما زالوا في قتال شديد فمد الدبيسي يده واقتلعه مثل العصفور وسلمه الى اصحابه فاوثقوه بالكتاف، ثم صال الدبيسي وجال وطلب مبارزة الابطال، فبرز اليه زيدان وصدمه بقلب اقوى من الصوان، فالتقاه الدبيسي كالاسد الغضبان وأخذا يتضاربان ويتحاربان واستمرا على ذلك الشأن نحو ثلاث ساعات، ثم افترقا بالسلامة والامان، وبينما كان الامير زيدان راجعا من الميدان، ضرب الدبيسي حصانه فرماه على الارض، فانقضت عليه جموع الدبيسي فأخذوه واوثقوه، فهاج بنو هلال النساء والرجال واستعظموا تلك الاحوال وذهبت منهم جماعة من الاعيان الى عند أبي زيد فارس الفرسان، فوقعوا عليه وطلبوا منه ان يسعى لتخليص الفرسان والابطال من الاسر والاعتقال، فطيب قلوبهم ووعدهم بأنه سيبذل المجهود، ثم انه غير زيه وتنكر ولبس حلة من الحرير الاخضر ووضع طيلسانا على رأسه حتى لم يعد يعرفه احد، وقصد الملك الدبيسي ودعا له بالعز والانعام، وكان كلامه معه باللغة الفارسية فلما رآه الدبيسي على تلك الصفة ظن بانه من دراويش الاعجام فاحترمه غاية الاحترام وقال له: من اين أتيت يا ابن الاجواد؟ قال من مدينة بغداد واني فقير من فقراء عبد القادر رب الفضائل والمآثر، فقال ادعو لنا يا درويش الاعجام بالنجاح والانتصار، وان يرزقنا الله بأبي زيد المخادع الماكر حتى نقتله على رؤوس الاشهاد، لانه هو السبب في قدوم بني هلال الى هذه المنازل واطلال فاذا استجاب الله طلبك بلغناك اربك، فقال له الله يبلغك المرام بجاه مولاك عبد القادر وباقي الاولياء العظام، وما دام كذلك اريد منك ان تأمر لي بالذهاب الى البلد حتى انام في جامع عبد الصمد، فسمح له بالذهاب وامر الحجاب ان يفتحوا له الابواب.
يقول الدبيسي والدبيسي مزيد
بدمع جرى فوق الخدود بدود
الا ياغاديا على متن ضامر
تشابه غزالا بالفلاة شرود
اذا جيت عند الهلالي ابو علي
اعطيه مكتوبي تنال سعود
الا يا حسن اسمع كلامي واعتبر
وافهم مني غاية المقصود
فان كان قصدك تجوز بلادنا
فارسل لنا عشر مالك ترود
ارسل لنا الفين حمرة سليلة
والف جواد يامير هدود
والفين سيف يا أمير مسقطة
والف درع من عمل داود
وارسل لنا الجازية ام محمد
مع الست عليا بغية المقصود
وارسل لنا معها بنات امارتك
واحذر تخالف ولا تكون حقود
وان كنت لا تدفع لنا ما ذكرته
فارجع لأرضك واياك تعود
ثم ختم الكتاب واعطاه للوزير راشد، فاذه وسار حتى اشرف على بني هلال فنزل من على الحصان فسلم على السلطان، وعلى باقي الأمراء فردوا عليه السلام والتقوه بالترحاب والاكرام، وامر له بالجلوس فجلس بقربه وسال عن اسمه وعربه فاعلمه بواقعة الحال وعن سبب حضوره الى تلك الاطلال ثم اعطاه الكتاب، فاخذه الأمير وقراه، ولما وقف على حقيقة فحواه غضب الغضب الشديد لكنه اخفى الكمد واظهر الجلد، ثم امر الغلمان ان ياخذوا الوزير الى دار الضيافة، ولما خرج من الديوان التفت اللا الأمراء والأعيان واطلعهم على خطاب الدبيسي الذي طلب فيه عشر المال، فقال ابو زيد انه من الصواب ان تقول للدبيسي ان يمهلنا عشرة ايام ونحن نرسل له طلبه بالتمام ومتى انقضت المدة ولح في الطلب تقول له ليس عندنا مال ولا ذهب سوى الحرب والقتال في ساحة المجال، وبهذه الحال تكون فرساننا قد استراحت من تعب الطريق.
وتبادل الدبيسي وحسن الحوار شعرا، ثم ان حسن طوى الكتاب وختمه في الحال وسلمه الى الوزير فاوصله الوزير الى الدبيسي ودخل وسلم عليه واعطاه الكتاب ففتحه وقراه وعرف ما حواه ففرح واستبشر وايقن بالنجاح وبلوغ الوطر، ولما انتهت العشرة ايام لم ترسل بنو هلال الموال، قال الدبيسي للوزير ها قد مضت المدة المعينة ولم نقف على افادة ولا وردت الأموال، فيجب ان تسير اليه وتطلب منهم ان يبادروا بارسالها في الحال والا حاربناهم وانزلنا بهم الوبال فامتثل الوزير امره وسار الى صيوان الأمير حسن ودخل وسلم عليه، ثم جلس قليلا وبعد ذلك طالبه بالمال، ولامه على ذلك الاهمال، فقالت السادات ارجع الى مولاك وقل له ليس عندنا مال ولا نوق ولا جمال، غير ضرب السيف وطعن النصال، فاغتاظ الوزير من هذا الكلام ورجع الى مولاه واخبره بما سمعه من القوم فزاد غيظ الدبيسي، وامر الرؤساء والقادة بجمع العساكر والاجنا، فعند ذلك دقت الطبول وركبت الفرسان ظهور الخيل واعتقلت بالرماح وخفقت الرايات وركبت الابطال باربع مائة الف مقاتل.
( قال الراوي ):
فلما ركب الدبيسي ومعه العسار والاجناد، طالبا ديار بني هلال، اقترب منهم فالتقوا به ودنو من بعضهم، فبرز من فرسان الدبيسي فارس كانه الاسد الكاسر اسمه الامير خاطر، فبرز اليه دياب فقال له: من تكون من بني هلال؟
فقال: انا دياب المصادم وصاح فيه؛ وهجم عليه فالتقاه الفارس كالاسد الكاسر، وجرى بينهما حروب واهوال تشيب رؤوس الاطفال وبعد ذلك اختلف بينهما ضربتان قاطعتان، وكان السابق الأمير دياب لأنه اعلم في اصول الحرب واخبر في مواقع الطعن والضرب، فوقعت الضربة على هامه فقدته نصفين، ثم سال وجال وطلب مبارزة الابطال، فبرز اليه فارس آخر فقتله وثان جندله وثالث عجل الى المقابر مرتحله، وما زال يبارز الفرسان والابطال ويمددها على وجه الرمال الى وقت الزوال، دقت طبول الانفصال وبات الفريقين يتحارسان تحت مشيئة الرحمن، ولما اصبح الصباح واشرق بنوره ولاح، برز الأمير دياب الى الميدان وطلب مبارزة الفرسان، فبرز اليه الوزير راشد، فالتقاه الأمير دياب بقلب كالحديد، ثم التقى البطلان كانهما جبلان او اسدان كاسران، وحان عليهما الحين وغنى على راسيهما غراب البين ولم تكن الا ساعة من الزمان، حتى استطال عليه دياب في الميدان وطعنه بالرمح في صدره، خرج يلمع من ظهره فوقع على الارض قتيلا وفي دمه جديلا، فلما قتل الوزير راشد هجمت جموع الدبيسي بقلب واحد فتلقتهم بنو هلال بقلوب كالجبال واشتد بين العسكرين القتال، وعظمت الاهوال، فما كنت ترى الا وقع السيوف على السيوف وقتال يشيب الاطفال، وما زال القوم على تلك الحال وهم في اشد القتال الى وقت الزوال، فعد ذلك دقت طبول الانفصال فتاخرت عساكر الدبيسي خاسرة ورجعت بنو هلال ظافرة، وفي ثاني الايام دقت طبول الحرب والكفاح، فركبت الفرسان واعتقلت بالسيوف والرماح وبرز الأمير دياب فصال وجال في ساحة المجال، وطلب مبارزة الأبطال فبرز اليه الوزير محمود فالتقاه الأمير دياب بقلب شديد.
ثم ان الوزير هم على دياب فالتقاه دياب بقلب شديد وهجم عليه هجوم الصناديد، واشتد بينهما القتال في ساحة المجال، فاختلف بين الاثنين ضربتان قاطعتان وكان السابق الوزير محمود، فغطس دياب تحت الخضرا فراحت الضربة خائبة، ثم انتصب الأمير دياب وهجم عليه سبع الغب فضربه بالسيف عل هامه، فقطعه نصفين وكان له اخ يدعى الهداف، فلما راى اخاه قد مات زادت عليه الحسرات فهجم على الأمير دياب لياخذ بثأر اخيه فالتقاه الأمير دياب في الميدان بقلب اقوى من الصوان، وجرى بينهما حروب واهوال تشيب رؤوس الاطفال، واستمرا على تلك الحال وهما في اشد القتال، الى ان ولى النهار واقبل الليل، فوقفا عن القتال وباتت العساكر في البطاح، ولما اصبح الصباح دقت طبول الحرب والكفاح وبرز الهداف الى الميدان وطلب مبارزة الفرسان، فبرز اليه دياب وصدمه كليث الغاب، فالتقاه الهداف وهجم عليه الاسد الرئبال، وما زالا في اشد قتال وطعان يذهل العقول الشجعان، الى ان انتصف النهار وكان ان استظهر عليه دياب وضربه على عنقه بالسيف البتار فقطعه نصفين والقاه في ساحة المجال، فلما رات جموع الدبيسي ما حل بوزيرها، هجمت على دياب، فعند ذلك هجمت بنو هلال من اليمين والشمال، والتقت الرجال بالرجال، وجرى الدم وسال من شدة الحرب والقتال، وما زالوا على تلك الحال الى وقت الزوال، فدقت طبول الانفصال وباتت بنو هلال في سرور، وبات الدبيسي في قلق وضجر لأنه قد قتل الشجعان الملك الدبيسي، فصال وجال في ساحة المجال ونادى اين فرسان بني هلال، فلتبرز الآن الى ساحة القتال، فما تم كلامه حتى صار الأمير دياب قدامه وانشد شعرا يهدد به الدبيسي فاغتاظ الدبيسي منه، ورد عليه فاغتاظ دياب بدوره وانطبق عله، وفعل الدبيسي مثل ما فعل واخذا في الحرب والقتال وجرى بينهما عجائب واهوال، الى ان ولى النهار واقبل الليل بالاعتكار، فافترقا عن بعضهما البعض وعند رجوع الأمير دياب من معركة الصدام التقاه الأمير حسن باعزاز واكرام وشكره على ما فعل، وقال له لا تنزل غدا الى الميدان لأن لك عدة ايام في الحرب والصدام والدبيسي مرتاح ثم ختم الكلام بهذا الشعر والنظام:
قال الفتى حسن الهلالي ابو علي
الدمع من فوق الخدود سيولا
يامرحبا بك يا دياب الغانم
يا فارس الفرسان يوم الهولا
يا فارس الفرسان يا ليث العدا
يا ليت عمرك يا امير يطولا
يا امير انك قد قتلت لراشد
وسلام اضحى ميتا مقتولا
اما الفتى محمود ولى وانمحى
واخوه هدافا غدا مجدولا
فقهرتهم يوم الوغى حتى غدوا
قتلى بحد الصارم المصقولا
واليوم قد نزل الدبيسي صادمك
في حومة الميدان مثل الغولا
يا امير دع غيرك في غدا ينازله
فاسمع كلامي وافهم المنقولا
اخاف توقع يا دياب بغدره
تضحى صريعا في الفلا مقتولا
( قال الرواي ):
فلما فرغ الأمير حسن من شعره ونظامه وفهم دياب فحوى كلامه، توقف عن رد الجواب فقال له حسن علامك يا دياب لا ترد الجواب فقال ارجو ايها الهمام ان لا تمنعني عن هذا الطلب وان قتلت فروحي فداك فاني لااخشى الموت في قتال اعدائك فشكره حسن وقبله في صدره وقال له: انا ما تفوهت بهذا الكلام الا لما وجدتك تعبان وما دام الامر كذلك فابرز نهار غد وقاتل خصمك واتكل على الله.
ثم باتوا تلك الليلة في سرور وانشراح ولما اقبل الصبح واشرق بنوره ولاح، دقت الطبول وركبت الفرسان ظهور الخيول واعتقلوا بالرماح والنصول، وتقدموا الى ساحة الميدان وكان اسبقهم الأمير دياب، ولما صار في معركة القتال طلب الدبيسي، فانحدر اليه فالتقاه كسبع الآجام، واخذ معه في الحرب والصدام واشتد بين البطلين القتال وعظمت الأهوال، وكانا تارة يتقدمان وتارة يتاخران وكانت عيون الفرسان شاخصة اليهما ومازا على تلك الحال الى وقت الزوال، فدقت طبول الانفصال فافترقا على سلام ورجعا الى الخيام، ولما اصبح الصباح ركب الأمير دياب فتقدمت اليه ابنته وطفا وهي تبكي بدموع غزار، فتعجب من ذلك وقال لها اعلميني بما اصابك قالت مرادي ان تتوقف هذا اليوم عن قتال القوم فقد رايت حلما في المنام اصبحت منه في اوهام وقصت خكاية حلمها شعرا، فقال لها: لا تخافي من هذا المنام فانه اضغاث احلام، فلا بد لي من الحرب والصدام فاذهبي الى خيامك ولا تخافي، فرجعت الى الخيام وتقدم دياب الى معركة الصدام فوجد الدبيسي بانتظاره، فصالا وجالا في ساحة الميدان واخذا بالضرب والطعن حتى حيرا الأذهان، فاختلف بين الاثنين ضربتان قاطعتان، وكان السابق الأمير دياب فابطلها الدبيسي بمعرفته ثم هجم على دياب كسبع الغاب وطعنه بالرمح طعنة قوية فجاء الرمح في فخذه فسالت دماء ويئس من الحياة، واراد الدبيسي ان يعجل فناه، واذا بفارس من بني هلال قد اقبل كانه قطعة من جبل وهو يهدر كالأسد، فخلص دياب من يد الدبيسي واعاده الى المضارب، ثم اقتحم الصفوف والمواكب، وهو يصيح وينادي اتاكم أبو زيد ليث الأعادي، وجعل ينخى بني هلال على الحرب والقتال فحملوا على جيش العدا من كل جانب، فعند ذلك حملت العساكر على العساكر وتقاتلوا بالسيوف والخناجر وحمل حسن بن سرحان وتبعه السادات والأعيان، ولم تكن ساعة من الزمان حتى اشتدت الأهوال وتمددت الأبطال على وجه الرمال وما زالوا في أشد قتال الى وقت الزوال، وكانت عساكر الدبيسي قد استظهرت في ذلك النهار واسرت عشرين فارسا من بني هلال الأخيار من جملتهم الامير عرندس والرياشي ومفرج والهدار، فلما شاهد حسن تلك الأهوال خاف على بني هلال من الهلاك والوبال فلما نزل في المضارب جمع قادة المواكب واخذ يستشيرهم بالقصيد.
فرد عليه ابو زيد وفهم الامير حسن فحوى مرامه فاستحسنه مع جميع السادات. هذا ما كان من بني هلال واما الدبيسي فانه عند رجوعه من القتال، كبرت في نفسه واحضر الاسرى بين يديه وتهددهم بالقتل والدمار، فوجدهم لا يبالون بالاخطار فارسلهم الى الحبس بعد ان شفى منهم غليل النفس، ولما اصبح الصباح واشرق بنوره ولاح،برز القاضي بدير الى الميدان وطلب مبارزة الفرسان، فبرز اليه فارس يقال له جاسر فحمل على بعضهما البعض وتجاول في الطول والعرض وتضاربا بالسيوف وتطاعنا بالرماح ولم يزالا في حرب وقتل وطعن الى قرب الزوال.
وكان القاضي قد استظهر على جاسر وهجم عليه كالاسد الكاسر وطعنه بالرمح في صدره خرج يلمع من ظهره، فوقع على الارض يتخبط بعضه ببعض ثم هجم آخر فقتله وعجل من الدنيا مرتحله، فعند ذلك دقت طبول الانفصال فرجع القاضي من معركة القتال فالتقته بنو هلال بالاكرام والاجلال وهنأته بالسلامة من الوبال، وباتوا تلك الليلة الى أن اصبح الصباح فتواثبوا الى الحرب والكفاح، فبرز من قوم الدبيسي فارس يقال له تميم، وطلب فتال الفرسان فبرز اليه الامير عقيل وهو اخو ابو زيد، فصدمه تميم صدمة جبار واشار يقول شعرا، فرد عليه عقيل، ولما فرغ من شعره حمل عليه واخذا في الصدام والعراك واشتبكا اشد اشتباك، وما زالا على تلك الحال وهما في اشد قتال، وكان عقيل قد استظهر على خصمه اشد الاستظهار، فضربه على عنقه بالسيف البتار وذا براسه قد طار، وكان له اخ اسمه ناصر فلما رأى ما حل باخيه هجم على عقيل هجمة الاسود، فالتقاه عقيل بقلب كالجبل والتحم بينهما القتال، وكان عقيل يريد سرعة الانجاز فلاصقه وضايقه وضربه بالحسام على رأسه فشقه ووقع على الفلاة وعدم الحياة، وكان الوقت قريب لزوال فدقت طبول الانفصال ورجع عقيل الى بني هلال، فالتقاه قومه بالكرامة وهنأوه بالسلامة وشكروه على فعاله وزادوا في اكرامه واجلاله، واما الدبيسي بن مزيد فقد تنغص عيشه وتنكد. فاجتمعت الاكابر والعمد ودخلوا على اميرهم وتمثلوا بين يديه وقالوا الى متى هذا الحال،فقد قتل منا عدة ابطال، فجعل يوعدهم في الانتصار، وثاني الايام برز الدبيسي الى الميدان وطلب مبارزة الابطال، فبرز اليه غنيم ابن مفلح، وكان غلاما جميلا فقال له الدبيسي من تكون يا غلام حتى تبرز في معركة الصدام، ثم صدمه بقوة واهتمام، وما زالوا في قتال شديد فمد الدبيسي يده واقتلعه مثل العصفور وسلمه الى اصحابه فاوثقوه بالكتاف، ثم صال الدبيسي وجال وطلب مبارزة الابطال، فبرز اليه زيدان وصدمه بقلب اقوى من الصوان، فالتقاه الدبيسي كالاسد الغضبان وأخذا يتضاربان ويتحاربان واستمرا على ذلك الشأن نحو ثلاث ساعات، ثم افترقا بالسلامة والامان، وبينما كان الامير زيدان راجعا من الميدان، ضرب الدبيسي حصانه فرماه على الارض، فانقضت عليه جموع الدبيسي فأخذوه واوثقوه، فهاج بنو هلال النساء والرجال واستعظموا تلك الاحوال وذهبت منهم جماعة من الاعيان الى عند أبي زيد فارس الفرسان، فوقعوا عليه وطلبوا منه ان يسعى لتخليص الفرسان والابطال من الاسر والاعتقال، فطيب قلوبهم ووعدهم بأنه سيبذل المجهود، ثم انه غير زيه وتنكر ولبس حلة من الحرير الاخضر ووضع طيلسانا على رأسه حتى لم يعد يعرفه احد، وقصد الملك الدبيسي ودعا له بالعز والانعام، وكان كلامه معه باللغة الفارسية فلما رآه الدبيسي على تلك الصفة ظن بانه من دراويش الاعجام فاحترمه غاية الاحترام وقال له: من اين أتيت يا ابن الاجواد؟ قال من مدينة بغداد واني فقير من فقراء عبد القادر رب الفضائل والمآثر، فقال ادعو لنا يا درويش الاعجام بالنجاح والانتصار، وان يرزقنا الله بأبي زيد المخادع الماكر حتى نقتله على رؤوس الاشهاد، لانه هو السبب في قدوم بني هلال الى هذه المنازل واطلال فاذا استجاب الله طلبك بلغناك اربك، فقال له الله يبلغك المرام بجاه مولاك عبد القادر وباقي الاولياء العظام، وما دام كذلك اريد منك ان تأمر لي بالذهاب الى البلد حتى انام في جامع عبد الصمد، فسمح له بالذهاب وامر الحجاب ان يفتحوا له الابواب.
وعند دخوله الى البلد قصد المكان الذي كانت مسجونة فيه فرسان بني هلال، فوجد العبيد يطوفون من خلف وقدام، فسلم عليهم فردوا السلام وقالوا من انت وما تريد، فقال قد أرسلني الدبيسي لادعو له في جامع عبد الصمد بأن الله يبلغه المراد وينتصر على ابو زيد، وانتم من تكونون؟ فقالوا نحن الحراس نحافظ على اسرى بيت هلال خوفا من الاعداء. ثم ان ابا زيد اخرج من جيبه شمعة مبنجة فاضاءها بعد ان فرك منخريه بضد البنج. فلما اشتعلت فاحت منها رائحة زكية ولم تكن إلا برهة يسيرة حتى وقعت الحراس كالاموات من ذلك البنج. وبعد ذلك اخرج المغناطيس ووضعه على الاقفال فتساقطت في الحال، فرأى فرسان بني هلال في القيود والاغلال وهم يقاسون الاهوال، فاعلمهم بالامر وفكهم من الاسر واعطاهم اسلحة الجماعة وقال لهم اتبعوني بعد ساعة، فلما وصل الى الباب وجد الحراس جالسين وفي ايديهم السيوف والحراب فسلم عليهم فردوا السلام، وقاموا له على الاقدام واجلسوه بجانبهم، وجعلوا يخاطبونه ويخاطبهم، وكان يمد يده الى جرابه ويأخذ قطعا من السكر ويأكلها امامهم فقالوا له ما هذا الذي تأكله يا شلبي، فقال هذا ملبس حلبي فقالوا له اطعمنا ونحن ندعو لك بالتوفيق والخير، فاعطاهم قبضة كبيرة وكانت مبنجة فأكلوها فلما استقرت في بطونهم تبنجوا وفي تلك الساعة اقبلت الاسرى وخرجوا وجدوا في قطع البراري والبطاح، فوصلوا لاهلهم عند الصباح فقامت الافراح وكثر الصياح، وشكروا أبا زيد على تلك الفعال. وأهل البلد حل عليهم الويل والنكد لما رأوا الحراس راقدين والاسرى مطلوقين، ولما بلغ الدبيسي هذا الخبر طار من عينيه الشرر، وتأكد عنده بعد التحقيق والتفتيش ان البلاء من ذلك الدرويش، وما هو الا ابو زيد صاحب المكر والكيد، ولكنه اخفى الكمد واظهر الجلد، وزحف بالعساكر والابطال لقتال بني هلال، وبرز للميدان وكان اول من برز الى الدبيسي سرور بن فايد فالتقاه الدبيسي بقلب كالصوان، واخذه اسيرا، وبرز اليه نعيم الزحلان وكان من صناديد الشجعان، فاسره في الحال وما زال يأسر الفرسان والابطال حتى اسر خمسين فارسا من بني هلال وفقد منها عدة ابطال وقد اشرفت على الوبال من هول القتال، فلما كان اليوم الرابع هجم الدبيسي بجيوشه قاصدا قتال بني هلال وانطبق عليهم من اليمين والشمال وقاتلهم اشد قتال، فكانت واقعة عظيمة لم يسمع بمثلها في الأيام، فكثر الصياح وجرى الدم وساح، فما كانت ترى الا رؤسا طائرة ودماء فائرة وفرسانا غائرة ودارت على بني هلال الدائرة، واستمر القتال على هذا المنوال حتى كثرت الاهوال على بني هلال فلم يعد لهم ثبات، فتاخروا الى الوراء وقد قتل من الفريقين نحو عشرين الف بطل كرار، ولما اظلم الظلام واجتمعت بنو هلال في الخيام وهم بحالة الذل والانكسار، عقدوا ديوانا مع الأمير حسن وطلبوا منه ان يمدهم برايه فاخذ يحمسهم بالمقال ويشجعهم على الحرب والقتال، ثم قال من الواجب ان تركب الجازية مع العمارية ونحمل عليهم في الصباح بالكتائب والمواكب، والا حلت بنا النوائب، فاشتدت عزائمهم على الحرب والصدام واجابوه على فرد لسان، اننا سنقاتل نهار غد بالسيف والسنان، حتى لا يبقى منا انسان، ولما اصبح الصباح واضاء بنوره ولاح، دقت طبول الحرب والكفاح، فركبت العساكر وهجمت على عساكر الدبيسي بقلب كالحديد، والتقت الرجال بالرجال والابطال بالابطال واشتدت الاهوال وارتجت السهول والجبال ومازالوا على تلك الحال حتى تضعضعت من الدبيسي الاحوال، فعند ذلك مالوا على عليهم من اليمين والشمال وتفرقت جموعهم بين الروابي والتلال، هذا والدبيسي ينخى الابطال ويقول انا الفارس المؤيد المدعو الدبيسي ابن مزيد، فلا يبرز لي الا أبو زيد صاحب المكر والكيد، الذي اتى الينا واحتال علينا، فما اتم كلامه حتى صار ابو زيد امامه وصدمه صدمة تزعزع الجبال والتقيا في ساحة المجال، واصطدما كانهما بحران وتزاحما كانهما اسدان حتى حان عليهما الحين وزعق فوق راسيهما غراب البين، واستمرا على تلك الحال الى نصف النهار، واما ابو زيد فاستظهر على خصمه وضايقه وسد عليه طرقه وطرائقه وطعنه بالرمح في صدره خرج يلمع من ظهره، فوقع عى الارض قتيلا، ولما رات قومه ما حل به خافت من الهلاك والبوار فولوا طالبين الفرار، وقصدوا المدينة وقد انقطع منهم الامل فتبعهم ابو زيد وبنو زحلان والأمير دياب والأمير حسن وباقي الفرسان ودخلوا المدينة وراءهم وضربوا فيهم بالسيف حتى جرت الدماء في الأسواق وبليت قوم الدبيسي بما لايطاق، وعلا بينهم الصياح والبكاء والنواح، ثم هجمت بنو هلال على الحصون والقلاع وخلصوا اسراهم من الاعتقال، ورجعوا من ساحة القتال وثيابهم كشقائق الارجوان من ادمية الفرسان،ونزلوا في المضارب والخيام وقد بلغوا غاية المرام،فخلعوا الحديد ولبسوا الاطاليس والحرير ودارت القهوة والشراب على الامراء والسادات، ثم نهض وزير الدبيسي همام واخذ مزيد بن الدبيسي وامه بدر، وسار بهما عند الأمير حسن فدخل وسلم عليه وبكى وطلب منه العفو والأمان وان يعاملهما بالطيب والاحسان، ثم تقدمت الأميرة بدر هيوالأمير مزيد والوزير همام اى الأمير حسن وقالوا له العفو يا امير الزمان، فقد نصحنا الدبيسي وحذرناه من عواقب الامور فلم يسمع كلامنا الى ان نفذ به الامر المقدر، فاجابهم الى ما طلبوا واكرمهم غاية الاكرام وخلع عليهم الخلع الفاخرة ونادى بالامان وزالت الاكدار والاحزان، وكان مزيد خاطب ابنة عمه هند وكانت من النساء المحسنات، فاعلم الوزير الامير حسن بذلك وطلب منه ان يزفها عليه فاجابه الى ذلك، وفي الحال ذبحوا النوق والاغنام ودارت الافراح سبعة ايام، وبعد تمام الافراح ولى الامير حسن مزيد مكان ابيه على البلاد، وطاعته جميع العباد لأنه كان يحب العدل والانصاف ويكره الجور والاسراف، وبعد تمام العرس امر الامير حسن بهذه المضارب والخيام وجمع المكاسب والاغنام وبالرحيل الى بلاد الغرب، فاجتمعت الفرسان من كل جانب ومكان فركب الامير دياب والقاضي بدير وزيدان شيخ الشباب، بستين الف من الشبان وركبت الجازية مع البنات وحينئذ ركبت الفرسان ظهور الخيل وانتشرت البيارق وكانت الفرسان تهوج وتموج مثل ايام ياجوج وماجوج، وجدوا في قطع البراري والقفار والسهول والاوعار، يوصلون سير الليل بالنهار، حتى وصلوا الى بلاد الاعجام، فنزلوا في مرج واسع كثير المياه فنصبوا المضارب والخيام.
انتظرونا فى الجزء الرابع
مع قصة حرب بني هلال مع الاعجام وسبي المارية
تعليقات: 0
إرسال تعليق