قصة ابو زيد الهلالي
الجزء السادس
قصة التمرلنك
( قال الراوي ):
لما قتلت بنو هلال ملوك العجم وكان الخرمند صهر التمرلنك يحكم على بلاد الموصل فلما قتل الخرمند ارسلت زهرة الى لابيها كتابا واعلمته بقتل زوجها الخرمند فلما سمع التمرلنك ذلك الكلام طلع الى الديوان وهو غضبان واخبر وزيره اسكندر بمقتل خرمند. قال يا ملك الزمان ارسل للبلاد واجمع العساكر ودعنا نلاقي بني هلال فأمره التمرلنك ام يأخذ معه مائتي الف مقاتل وقال له سر بالعساكر وكونوا رجالا، فسلر الوزير اسكندر بالعساكر الى ان وصل الى مكان يقال له القصر فوجد فيه تجارا آتين من بلاد العجم، فسألهم من اين اتيتم والى اين متجهون؟ فقالوا اتينا من بلاد العجم الى هذا المكان فاستدعى كبير التجار وكان اسمه كمال الدين وقال له ماذا سمعت عن بني هلال؟ فقال قد قتلوا الملوك وخربوا الكوفة وقتلوا الوزير وابن عمه ورفقته وكل الفوارس، وسبوا النساء وهم راحلين الى الغرب.
( قال الراوي ):
فلما فرغ كبير التجار من كلامه والوزير يسمع نظامه قال الوزير لقومه الرأي أن نرسل مائتي فارس إلى بلاد الرها يكشفون لنا الخبر، ونحن نبقى هنا حتى يأتي الملك، وإذا قال لماذا ذهبتم، نخبره بأنه أتانا علم بأن بني هلال نازلون في بلدة جاكدة، ونحن أرسلنا لهم روادا يكشفون لنا خبرهم وبقينا ننتظرهم، فقالوا هذا هو الرأي الصواب، أما التمرلنك فإنه بعث المكاتيب إلى جميع البلاد فحضرت العساكر فإذا هي أربع كرات ومعهم المدافع، وأحضر ابن أخته شروان وقال له أحكم موضعي جتى أحضر لك وطفا بنت دياب، فقال له على الرأس والعين، ثم أنه سار بالعساكر والجيوش يقطع البراري والقفار والسهول والأوعار، حتى وصلوا إلى بلاد الفرقس التي نازل فيها الوزير اسكندر، فلما وصل الملك لاقاه الوزير وسلم عليه، فقال له علامك ما لحقت بقوم هلال، فحكى له ما صار فعند ذلك غضب الملك وأمر بقتله، فتشفع به ملوك العجم من القتل فصفح عنه، ثم أنهم ساروا إلى أن وصلوا لرأس العين ونزلوا في ذلك المكان.
أما ما جرى لبني هلال فإن الأمير حسن رأى مناما هائلا، فلما أصبح استدعى الأمراء وراح يخبرهم بالمنام. فلما فرغ حسن من كلامه قالوا لاحول ولا قوة إلا بالله، فأحضر أبو زيد كتاب الرمل وتفسير الأحلام وضرب تخت الرمل ورسم الأشكال على شرح الحال فرأى الأهوال فبكى بكاءا شديدا. فلما فرغ أبو زيد من كلامه قال لهم كونوا على حذر من الأعادي، وباتوا إلى الصباح حتى صار وقت الضحى فما أقبل عليهم أحد، فقال أبو زيد يا أمير دياب اعزل من قومك ألفا ومن بني زغبة ألفا ومن عرب القاضي ألفا ومن قوم حسن ألفا ومن بني هلال اثني عشر ألفا، وتسلمهم الظعن وتجعلهم أربع فرق من كل فرقة أربعة آلاف فارس، فرجع دياب ولم الظعن وفعل مثل ما قال له أبو زيد، واجتمع الأمراء عند الأمير حسن فقال لهم ما هو رأيكم؟
قالوا الرأي أنك ترسل كتابا للتمر لنك، وإذا بالأمير دياب رأى رجالا آتين من ناحية بلاد التمرلنك فمسكهم وأتى بهم للأمير حسن، فقال ما هذا يا دياب؟ قال لقيتهم في البرية فقال الأمير حسن أنا أكتب كتابا للتمرلنك وأرسله مع واحد منهم ثم أشار يرسل إلى التمرلنك.
طوى الكتاب وختمه وأعطاه إلى الذين جلبهم دياب، وقال لهم أعطوه إلى التمرلنك، فأخذوه وساروا حتى دخلوا عليه وأعطوه الكتاب أخذه وقرأه وعرف رموزه ومعناه، وقال مرادي أطلب منهم عشر المال والخيل والجمال والبنات الحسان وفي الحال أشار يكتب.
ثم طوى الكتاب وختمه وكان عنده عبد اسمه الماس لكنه كان شديد البأس صعب المراس، فقال يا ألماس خذ هذا الكتاب إلى حسن بن سرحان أمير العربان، وقل له يرسل لنا نصف مال بني هلال، والنصف الآخر له بخشيش، فأخذ العبد الكتاب وسار حتى وصل إلى عند الأمير حسن فدخل وقبل يديه وأعطاه الكتاب، فأخذه وقرأه وعرف رموزه ومعناه وقال إلى قومه مارأيكم أيها الأمراء؟ فتقدم الأمير أبو زيد وأشار يرسل له الجواب ويقول:
يقول أبو زيد الهلالي سلامة
ولي دمع جرى فوق الخدود سكيبا
من أجل كتاب قد أفاض مدامعي
وعدت أقاسي من كلامه نحيبا
فترسل تريد المال منا غصيبة
وبنات هلال إليك نسيبها
ونحن رجال الحرب في يوم غارة
بيوم يعود الدم يجري سكيبها
فكم من ملوك كبار شتت شملهم
وراحوا من سيفي يقاسوا لهيبها
أنا أعلمك عن آل قيس وعامر
وآل زغبي خلاني أجيبها
إن طعتني أرحل بقومك يا فتى
نحن سباع الفلا ثم ذيبها
فلما فرغ أبو زيد من كلامه طوى الكتاب وختمه وأعطاه إلى العبد، فأخذه إلى التمرلنك ودخل عليه وأعطاه الكتاب فأخذه وقرأه، وعرف رموزه ومعناه وغضب غضبا شديدا وزاد به الغم والتنكيد، ثم استدعى بالوزير اسكندر وقال ان العربان لم يعطونا حسب طلبنا، وحياة رأسي لأحصدهم حصدا وأشردهم بالبراري، قال له الوزير دعني أكتب الجواب إلى الأمير أبي زيد فقال الملك لا يلزم الجواب وغدا نصلي عليهم نار الحرب ونسقيهم كأس الكرب، وثاني يوم ركب الأمير أبو زيد وأشرف على القوم رآهم مقبلين مثل الجراد المنتشر ما لهم أول من آخر فرجع وأخبر بني هلال بهذه الأبيات:
قال أبو زيد الهلالي سلامة
يا حسن جتنا العجم تمشي سريع
يا ملك جانا التمرلنك قاصدا
من فوق أشقر يا أمير تليع
والخيل من خلفه جراد زاحف
دوارع وسيوف تلمع لميع
أيا دياب اركب وانهض عاجل
واجعل الأعاجم أن يغدوا قطيع
( قال الراوي ):
وهم بالكلام وإذا بالعجم أقبلت مثل الجراد، فركب بنو هلال ولاقوا الأعاجم، ثم أنهم وقفوا مقابل بعضهم البعض فنزل وزير من وزراء التمرلنك إلى الميدان اسمه دخان، عرض وبان وطلب الفرسان وصاح على بني هلال، هل من مبارز هل من مناجر؟ لا يبرز لي كسلان ولا عاجز فما في حومة الميدان إلا الوزير دخان، فما أتم كلامه حتى صار القاضي بدير قدامه وصدمه صدمة هائلة، فقال له من تكون من الفرسان حتى جئت تهاجم الوزير؟
فقال أنا قاضي العربان ثم التقى البطلان كأنهما جبلان وافترقا كأنهما مركبان، وثار الغبار حتى سد الأقطار وقدحت حوافر الخيل نار، فزعق القاضي في وجه دخان صوتا مثل الرعد القاصف، ثم ضربه بالرمح فأخذها بالترس البولاد، راح ضرب القاضي خائبا فارتد الوزير وضرب القاضي بالسيف فشطب على رقبة الجواد فبراها كما يبري الكاتب القلم، فأراد أن يكمل عليه فأدركه الرياشي مفرج، وأركبوه جوادا والتقت الرجال بالرجال وجرى الدم وسال إلى وقت الزوال، دقت طبول الإنفصال وكل عاد إلى حيه، ولما أصبح الصباح دقت طبول الحرب والكفاح وركب التمرلنك بقومه، وركب بنو هلال وخرجوا إلى حومة الميدان واصطفوا، فبرز الوزير دخان إلى حومة الميدان ونادى على الفرسان فبرز له الأمير دياب.
والتقى البطلان كأنهما جبلان وحان عليهما الحين وغنى على رأسيهما غراب البين، وضرب دخان ديابا بالسيف أخذها بترس البولاد راحت خائبة، ثم أن ديابا انحدف على دخان وكان معلم الخضرة إذا صار فيه الفارس وكان من ورائه تضربه الخضرة بالجوز، فلما انحدف على دخان وأراد أن يضربه، برم دخان من وراء دياب يريد أن يضربه، وإذا بالخضرة ضربته بالجوز رمته هو والجواد على الأرض، فنزل له دياب وشد كتافه وأخذه أسيرا إلى أن وصل لعند الأمير حسن، فقال هذا دخان الذي قتل جواد خالي القاضي بدير وقتل من بني هلال ستة عشر فارسا، قال حسن والله هذا بطل لا أسمح فيه أن يقتل ثم أمر بخلعة سنبة ولبسها إلى دخان وقال له عليك الأمان ان رحت عند التمرلنك مع السلامة وإن بقيت عندنا حلت البركة، فقال الوزير يا ملك الزمان لي ولد عند التمرلنك فقال دياب أبشر أنا أجيب لك إياه، فبقي دخان عند بني هلال، ولما أصبح الصباح ركبوا وركب ابن دخان وكان اسمه سكران فنزل إلى الميدان وطلب مبارزة الفرسان فنزل إليه دياب وقال له من أنت؟ فقال أنا سكران ابن الوزير دخان وأنت أسرت أبي، قال دياب واليوم الحقك به ثم التقى البطلان كأنهما جبلان، وافترقا كأنهما مركبان، وحان عليهما وحان عليهما الحين وغنى على رأسيهما غراب البين، ودياب لايريد أن يقتله إكراما لأبيه، فداما على ذلك الحال إلى أن أمسى المساء، دقت طبول الإنفصال فافترقا عن بعضهما وكل منهما طلب أهله، وباتا إلى الصباح فنزلا للحرب والكفاح وتجاولا في الميدان من الصباح إلى المساء فقال دياب وإلى متى وأنا أطول روحي، وسحب الدبوس وضرب به سكران أرماه ونزل إليه وشده وعاد به إلى أبيه الوزير دخان، فأخبره بما أكرمه به السلطان ففرح سكران بأبيه وبقيا عند بني هلال، وفي الصباح دقوا طبول الحرب والكفاح ونزلوا إلى الميدان فبرز وزير للتمرلنك اسمه شاهين، فنزل له طوي بن مالك والتقى البطلان كأنهما جبلان حتى تعب منهما الزندان، ولم يزالا على تلك الحال من الصبح إلى العصر، فعندها قام طوي في عزم الركاب وضرب شاهين بعود القنا أخذها بترس البولاد راحت خائبة، ثم قام شاهين في عزم الركاب وضربه ومن عظم الضربة وقع شاهين من على ظهر الجواد إلى الآرض فضربه بالسيف على هامه ألقى رأسه قدامه، فلما رأت الأعجام شاهين قتيل، هجموا على العرب وهجمت العرب على الأعجام، والتحم القومان في بعضهم البعض، ولم يزالوا على تلك الحال إلى أن دقت طبول الإنفصال، فرجعوا إلى استحكاماتهم وفي الصباح اصطفت العساكر وبرز أبو زيد إلى الميدان وطلب مبارزة الفرسان، فنزل إليه اسكندر وزير التمرلنك فصدمه أبو زيد صدمة هائلة فتلقاه اسكندر وأنشد يقول:
أنني قرم غضنفر
رأس فرساني وعسكر
قال أبو سرحان اسكندر
لأنني قرم غشمشم
دوم في الجهات عابس
من يعاديني سيندم
فلما فرغ اسكندر من كلامه وأبو زيد يسمع نظامه أشار يرد عليه:
فارس يوم المجال
عادته قتل الرجال
قال أبو زيد الهلالي
جاك أبوزيد المسمى
من لقاكم ما يهما
يوم وقعات الصدام
سمها يهري العظام
ضربتي والسن سما
كما قتلت ملوك الأكابر
وزرا أيضا عساكر،
يا اسكندر قوم بادر
والتقيني بالصدام.
فلما فرغ الأمير أبو زيد والوزير اسكندر يسمع نظامه، التقى البطلان كأنهما جبلان وحان عليهما الحين وغنى على رأسيهما غراب البين، ولم يزالا على تلك الحال إلى وقت العصر حتى كلت منهما الزنود، فعندها قام الوزير في عزم الركاب وضرب أبا زيد بالسيف فأخذها بدرعه البولاد راحت خائبة، ثم أن الأمير أبو زيد هجم عليه كأنه السبع الكاسر وضربه بالقرضاب على عنقه فقتله، عند ذلك حملت العجم على العرب والعرب على العجم، وانحطت من الأعدا الهمم ولله در أبو زيد ودياب وباقي الشباب بما قاموا به من الجهاد والنضال! وما فرق بينهم إلا الظلام، عندها دقت طبول الإنفصال فافترقوا عن الحرب والقتال وقد قتل من العجم خلق كثير، وفي الصباح دقوا طبول الحرب والكفاح واصطف الفريقان فبرز التمرلك إلى الميدان، فلما رأى بنو هلال التمرنلك تعجبوا من همته وهو كأنه البرج الحصين، فقال حسن يا أبا زيد ماذا تقول في هذا الفارس، فقال أبو زيد العلم عند الله أنه عفريت من عفاريت سليمان فقال حسن نادوا إلى دخان لربما يعرفه، فنادوا له فحضر فقال حسن يا دخان من يكون هذا الفارس الذي في الميدان؟ فقال له هذا التمرلنك فقال حسن من ينزل إليه فقال دياب أنا أنزل إليه وعلى الله الإتكال، ثم نزل إلى الميدان وصدم تمرلنك فالتقاه وقال له من تكون من الفرسان؟ قال أنا دياب حداف الرقاب، فلما سمع التمرنلك هذا الكلام انطبق عليه والتقى البطلان كأنهما جبلان والتطما كأنهما بحران، ولم يزالا على تلك الحال إلى المساء، دقت طبول الإنفصال ورجعا عن القتال، وفي الصباح دقوا طبول الحرب والكفاح فنزل التمرلنك إلى الميدان وطلب الفرسان، فتقدم إليه فارس من بني زغبة فضربه التمرلنك طير رأسه، ثم نزل ثاني قتله وثالث جندله ورابع ما أمهله حتى قتل منهم عشرين فارسا، وأمسى المساء فدقت طبول الإنفصال فرجع كل فريق إلى حيه فقال الأمير حسن ما رأيك يا أبـا زيد؟ فقال أبو زيد الذي تريده يصير فقال حسن مرادي أن أرسل إلى التمرلنك كتابا لكي يترك القتال، فقال أبو زيد اكتب فكتب حسن إلى التمرلنك يقول:
يقول الفتى حسن الهلالي أبو علي
بدمع جرى فوق الخدود سكاب
نعم أيها الغادي على متن ضامر
تشابه نسيم الريح مثل الشهاب
إذا جيت للتمرلنك بلغ رسالتي
أيا ريت عمره ما يشوف نكاب
وقل له قال الأمير أبو علي
أمير ابن أمير من فروع أنساب
ألا يا ملك اسمع مقالتي وقصتي
وفز بنفسك من ملوك أعراب
وافهم كلامي لاتزيد عتاب
وتوقع بأوشم شومها وانكاب
فان طعنتي أسلم بروحك وعزوتك
من قبل ما تعلق بكم نار حربنا
فلما فرغ حسن من كلامه طوى التحرير وختمه وأعطاه إلى عبده، فأخذه وسار إلى التمرلنك وأعطاه التحرير، فقرأه فغضب غضبا شديدا وسحب السيف وضرب العبد طير رأسه، وقال لقومه غدا يكون آخر أيام بني هلال، فوصل الخبر للأمير حسن فغضب غضبا شديدا، وشاور الأمير أبو زيد على هذا الأمر فأجابه هاتوا لنا ثمانين ألف جمل وحملوها ترابا ناعما، ويركب مع الجمال ثمانون أميرا والعبيد تسوقها من الوراء ونركب نحن والله يعطي النصر لمن يشاء، فاعتمدوا على هذا الرأي ولما أصبح الصباح ركب الأمر أبو زيد بقومه التسعين ألفا والقاضي بقومه والأمير دياب بقومه، والأمير حسن بقومه ومشوا الجمال بعدما حملوها ترابا، وقال أبو زيد للذي مع الجمال إذا انكسرتم تعالوا صوبنا، ثم أنهم دقوا النوبات وطلبوا للقا والثبات، فلما سمع التمرلنك صوت الطبول دق طبله وركب بقومه، فهجمت الأعجام بالمدافع وكان عددها خمسمائة مدفع، فعندها لكزت بنو هلال الجمال على المدافع فجفلت من صوت المدافع، وكثر الصياح من وراء الجمال والعبيد تشكهم بالرماح وفزروا عدول التراب وهب الهواء وثار العجاج والغبار حتى عميت الأبصار، فركضت الجمال وداست الأعجام وخيلها، وحينئذ هجمت الأعراب الأسود وطعنوا الصدور والكبود، فلما نظر التمرلنك إلى ما صار في قومه أراد الهرب، وإذا بالأمير صبرا ابن أبو زيد عارضه في الطريق وصاح به، إلى أين يا ابن ألف قرنين فالتقاه التمرلنك بقلب مثل الصخر، وتجاولا في الميدان وتكسرت بينهما العيدان ثم هجم التمرلنك على الأمير صبرا هجمة الأسود وحمله على راحة زنده فتعلق صبرا بخصمه وسحب الخنجر وطعن به التمرلنك فعندها مالت العرب على العجم وما سلم منهم إلا كل طويل عمر، وفاتوا على خزائن التمرلنك وغنموا الأموال، وفرقها الأمير حسن على العرب وأحضر قوم التمرلنك والوزير دخان وجعله ملكا عليهم ومن بعدها ارتاحت العساكر من الحرب والصدام وأقاموا عدة أيام ورحلوا إلى أرض حلب.
( قال الراوي ):
فلما فرغ كبير التجار من كلامه والوزير يسمع نظامه قال الوزير لقومه الرأي أن نرسل مائتي فارس إلى بلاد الرها يكشفون لنا الخبر، ونحن نبقى هنا حتى يأتي الملك، وإذا قال لماذا ذهبتم، نخبره بأنه أتانا علم بأن بني هلال نازلون في بلدة جاكدة، ونحن أرسلنا لهم روادا يكشفون لنا خبرهم وبقينا ننتظرهم، فقالوا هذا هو الرأي الصواب، أما التمرلنك فإنه بعث المكاتيب إلى جميع البلاد فحضرت العساكر فإذا هي أربع كرات ومعهم المدافع، وأحضر ابن أخته شروان وقال له أحكم موضعي جتى أحضر لك وطفا بنت دياب، فقال له على الرأس والعين، ثم أنه سار بالعساكر والجيوش يقطع البراري والقفار والسهول والأوعار، حتى وصلوا إلى بلاد الفرقس التي نازل فيها الوزير اسكندر، فلما وصل الملك لاقاه الوزير وسلم عليه، فقال له علامك ما لحقت بقوم هلال، فحكى له ما صار فعند ذلك غضب الملك وأمر بقتله، فتشفع به ملوك العجم من القتل فصفح عنه، ثم أنهم ساروا إلى أن وصلوا لرأس العين ونزلوا في ذلك المكان.
أما ما جرى لبني هلال فإن الأمير حسن رأى مناما هائلا، فلما أصبح استدعى الأمراء وراح يخبرهم بالمنام. فلما فرغ حسن من كلامه قالوا لاحول ولا قوة إلا بالله، فأحضر أبو زيد كتاب الرمل وتفسير الأحلام وضرب تخت الرمل ورسم الأشكال على شرح الحال فرأى الأهوال فبكى بكاءا شديدا. فلما فرغ أبو زيد من كلامه قال لهم كونوا على حذر من الأعادي، وباتوا إلى الصباح حتى صار وقت الضحى فما أقبل عليهم أحد، فقال أبو زيد يا أمير دياب اعزل من قومك ألفا ومن بني زغبة ألفا ومن عرب القاضي ألفا ومن قوم حسن ألفا ومن بني هلال اثني عشر ألفا، وتسلمهم الظعن وتجعلهم أربع فرق من كل فرقة أربعة آلاف فارس، فرجع دياب ولم الظعن وفعل مثل ما قال له أبو زيد، واجتمع الأمراء عند الأمير حسن فقال لهم ما هو رأيكم؟
قالوا الرأي أنك ترسل كتابا للتمر لنك، وإذا بالأمير دياب رأى رجالا آتين من ناحية بلاد التمرلنك فمسكهم وأتى بهم للأمير حسن، فقال ما هذا يا دياب؟ قال لقيتهم في البرية فقال الأمير حسن أنا أكتب كتابا للتمرلنك وأرسله مع واحد منهم ثم أشار يرسل إلى التمرلنك.
طوى الكتاب وختمه وأعطاه إلى الذين جلبهم دياب، وقال لهم أعطوه إلى التمرلنك، فأخذوه وساروا حتى دخلوا عليه وأعطوه الكتاب أخذه وقرأه وعرف رموزه ومعناه، وقال مرادي أطلب منهم عشر المال والخيل والجمال والبنات الحسان وفي الحال أشار يكتب.
ثم طوى الكتاب وختمه وكان عنده عبد اسمه الماس لكنه كان شديد البأس صعب المراس، فقال يا ألماس خذ هذا الكتاب إلى حسن بن سرحان أمير العربان، وقل له يرسل لنا نصف مال بني هلال، والنصف الآخر له بخشيش، فأخذ العبد الكتاب وسار حتى وصل إلى عند الأمير حسن فدخل وقبل يديه وأعطاه الكتاب، فأخذه وقرأه وعرف رموزه ومعناه وقال إلى قومه مارأيكم أيها الأمراء؟ فتقدم الأمير أبو زيد وأشار يرسل له الجواب ويقول:
يقول أبو زيد الهلالي سلامة
ولي دمع جرى فوق الخدود سكيبا
من أجل كتاب قد أفاض مدامعي
وعدت أقاسي من كلامه نحيبا
فترسل تريد المال منا غصيبة
وبنات هلال إليك نسيبها
ونحن رجال الحرب في يوم غارة
بيوم يعود الدم يجري سكيبها
فكم من ملوك كبار شتت شملهم
وراحوا من سيفي يقاسوا لهيبها
أنا أعلمك عن آل قيس وعامر
وآل زغبي خلاني أجيبها
إن طعتني أرحل بقومك يا فتى
نحن سباع الفلا ثم ذيبها
فلما فرغ أبو زيد من كلامه طوى الكتاب وختمه وأعطاه إلى العبد، فأخذه إلى التمرلنك ودخل عليه وأعطاه الكتاب فأخذه وقرأه، وعرف رموزه ومعناه وغضب غضبا شديدا وزاد به الغم والتنكيد، ثم استدعى بالوزير اسكندر وقال ان العربان لم يعطونا حسب طلبنا، وحياة رأسي لأحصدهم حصدا وأشردهم بالبراري، قال له الوزير دعني أكتب الجواب إلى الأمير أبي زيد فقال الملك لا يلزم الجواب وغدا نصلي عليهم نار الحرب ونسقيهم كأس الكرب، وثاني يوم ركب الأمير أبو زيد وأشرف على القوم رآهم مقبلين مثل الجراد المنتشر ما لهم أول من آخر فرجع وأخبر بني هلال بهذه الأبيات:
قال أبو زيد الهلالي سلامة
يا حسن جتنا العجم تمشي سريع
يا ملك جانا التمرلنك قاصدا
من فوق أشقر يا أمير تليع
والخيل من خلفه جراد زاحف
دوارع وسيوف تلمع لميع
أيا دياب اركب وانهض عاجل
واجعل الأعاجم أن يغدوا قطيع
( قال الراوي ):
وهم بالكلام وإذا بالعجم أقبلت مثل الجراد، فركب بنو هلال ولاقوا الأعاجم، ثم أنهم وقفوا مقابل بعضهم البعض فنزل وزير من وزراء التمرلنك إلى الميدان اسمه دخان، عرض وبان وطلب الفرسان وصاح على بني هلال، هل من مبارز هل من مناجر؟ لا يبرز لي كسلان ولا عاجز فما في حومة الميدان إلا الوزير دخان، فما أتم كلامه حتى صار القاضي بدير قدامه وصدمه صدمة هائلة، فقال له من تكون من الفرسان حتى جئت تهاجم الوزير؟
فقال أنا قاضي العربان ثم التقى البطلان كأنهما جبلان وافترقا كأنهما مركبان، وثار الغبار حتى سد الأقطار وقدحت حوافر الخيل نار، فزعق القاضي في وجه دخان صوتا مثل الرعد القاصف، ثم ضربه بالرمح فأخذها بالترس البولاد، راح ضرب القاضي خائبا فارتد الوزير وضرب القاضي بالسيف فشطب على رقبة الجواد فبراها كما يبري الكاتب القلم، فأراد أن يكمل عليه فأدركه الرياشي مفرج، وأركبوه جوادا والتقت الرجال بالرجال وجرى الدم وسال إلى وقت الزوال، دقت طبول الإنفصال وكل عاد إلى حيه، ولما أصبح الصباح دقت طبول الحرب والكفاح وركب التمرلنك بقومه، وركب بنو هلال وخرجوا إلى حومة الميدان واصطفوا، فبرز الوزير دخان إلى حومة الميدان ونادى على الفرسان فبرز له الأمير دياب.
والتقى البطلان كأنهما جبلان وحان عليهما الحين وغنى على رأسيهما غراب البين، وضرب دخان ديابا بالسيف أخذها بترس البولاد راحت خائبة، ثم أن ديابا انحدف على دخان وكان معلم الخضرة إذا صار فيه الفارس وكان من ورائه تضربه الخضرة بالجوز، فلما انحدف على دخان وأراد أن يضربه، برم دخان من وراء دياب يريد أن يضربه، وإذا بالخضرة ضربته بالجوز رمته هو والجواد على الأرض، فنزل له دياب وشد كتافه وأخذه أسيرا إلى أن وصل لعند الأمير حسن، فقال هذا دخان الذي قتل جواد خالي القاضي بدير وقتل من بني هلال ستة عشر فارسا، قال حسن والله هذا بطل لا أسمح فيه أن يقتل ثم أمر بخلعة سنبة ولبسها إلى دخان وقال له عليك الأمان ان رحت عند التمرلنك مع السلامة وإن بقيت عندنا حلت البركة، فقال الوزير يا ملك الزمان لي ولد عند التمرلنك فقال دياب أبشر أنا أجيب لك إياه، فبقي دخان عند بني هلال، ولما أصبح الصباح ركبوا وركب ابن دخان وكان اسمه سكران فنزل إلى الميدان وطلب مبارزة الفرسان فنزل إليه دياب وقال له من أنت؟ فقال أنا سكران ابن الوزير دخان وأنت أسرت أبي، قال دياب واليوم الحقك به ثم التقى البطلان كأنهما جبلان، وافترقا كأنهما مركبان، وحان عليهما وحان عليهما الحين وغنى على رأسيهما غراب البين، ودياب لايريد أن يقتله إكراما لأبيه، فداما على ذلك الحال إلى أن أمسى المساء، دقت طبول الإنفصال فافترقا عن بعضهما وكل منهما طلب أهله، وباتا إلى الصباح فنزلا للحرب والكفاح وتجاولا في الميدان من الصباح إلى المساء فقال دياب وإلى متى وأنا أطول روحي، وسحب الدبوس وضرب به سكران أرماه ونزل إليه وشده وعاد به إلى أبيه الوزير دخان، فأخبره بما أكرمه به السلطان ففرح سكران بأبيه وبقيا عند بني هلال، وفي الصباح دقوا طبول الحرب والكفاح ونزلوا إلى الميدان فبرز وزير للتمرلنك اسمه شاهين، فنزل له طوي بن مالك والتقى البطلان كأنهما جبلان حتى تعب منهما الزندان، ولم يزالا على تلك الحال من الصبح إلى العصر، فعندها قام طوي في عزم الركاب وضرب شاهين بعود القنا أخذها بترس البولاد راحت خائبة، ثم قام شاهين في عزم الركاب وضربه ومن عظم الضربة وقع شاهين من على ظهر الجواد إلى الآرض فضربه بالسيف على هامه ألقى رأسه قدامه، فلما رأت الأعجام شاهين قتيل، هجموا على العرب وهجمت العرب على الأعجام، والتحم القومان في بعضهم البعض، ولم يزالوا على تلك الحال إلى أن دقت طبول الإنفصال، فرجعوا إلى استحكاماتهم وفي الصباح اصطفت العساكر وبرز أبو زيد إلى الميدان وطلب مبارزة الفرسان، فنزل إليه اسكندر وزير التمرلنك فصدمه أبو زيد صدمة هائلة فتلقاه اسكندر وأنشد يقول:
أنني قرم غضنفر
رأس فرساني وعسكر
قال أبو سرحان اسكندر
لأنني قرم غشمشم
دوم في الجهات عابس
من يعاديني سيندم
فلما فرغ اسكندر من كلامه وأبو زيد يسمع نظامه أشار يرد عليه:
فارس يوم المجال
عادته قتل الرجال
قال أبو زيد الهلالي
جاك أبوزيد المسمى
من لقاكم ما يهما
يوم وقعات الصدام
سمها يهري العظام
ضربتي والسن سما
كما قتلت ملوك الأكابر
وزرا أيضا عساكر،
يا اسكندر قوم بادر
والتقيني بالصدام.
فلما فرغ الأمير أبو زيد والوزير اسكندر يسمع نظامه، التقى البطلان كأنهما جبلان وحان عليهما الحين وغنى على رأسيهما غراب البين، ولم يزالا على تلك الحال إلى وقت العصر حتى كلت منهما الزنود، فعندها قام الوزير في عزم الركاب وضرب أبا زيد بالسيف فأخذها بدرعه البولاد راحت خائبة، ثم أن الأمير أبو زيد هجم عليه كأنه السبع الكاسر وضربه بالقرضاب على عنقه فقتله، عند ذلك حملت العجم على العرب والعرب على العجم، وانحطت من الأعدا الهمم ولله در أبو زيد ودياب وباقي الشباب بما قاموا به من الجهاد والنضال! وما فرق بينهم إلا الظلام، عندها دقت طبول الإنفصال فافترقوا عن الحرب والقتال وقد قتل من العجم خلق كثير، وفي الصباح دقوا طبول الحرب والكفاح واصطف الفريقان فبرز التمرلك إلى الميدان، فلما رأى بنو هلال التمرنلك تعجبوا من همته وهو كأنه البرج الحصين، فقال حسن يا أبا زيد ماذا تقول في هذا الفارس، فقال أبو زيد العلم عند الله أنه عفريت من عفاريت سليمان فقال حسن نادوا إلى دخان لربما يعرفه، فنادوا له فحضر فقال حسن يا دخان من يكون هذا الفارس الذي في الميدان؟ فقال له هذا التمرلنك فقال حسن من ينزل إليه فقال دياب أنا أنزل إليه وعلى الله الإتكال، ثم نزل إلى الميدان وصدم تمرلنك فالتقاه وقال له من تكون من الفرسان؟ قال أنا دياب حداف الرقاب، فلما سمع التمرنلك هذا الكلام انطبق عليه والتقى البطلان كأنهما جبلان والتطما كأنهما بحران، ولم يزالا على تلك الحال إلى المساء، دقت طبول الإنفصال ورجعا عن القتال، وفي الصباح دقوا طبول الحرب والكفاح فنزل التمرلنك إلى الميدان وطلب الفرسان، فتقدم إليه فارس من بني زغبة فضربه التمرلنك طير رأسه، ثم نزل ثاني قتله وثالث جندله ورابع ما أمهله حتى قتل منهم عشرين فارسا، وأمسى المساء فدقت طبول الإنفصال فرجع كل فريق إلى حيه فقال الأمير حسن ما رأيك يا أبـا زيد؟ فقال أبو زيد الذي تريده يصير فقال حسن مرادي أن أرسل إلى التمرلنك كتابا لكي يترك القتال، فقال أبو زيد اكتب فكتب حسن إلى التمرلنك يقول:
يقول الفتى حسن الهلالي أبو علي
بدمع جرى فوق الخدود سكاب
نعم أيها الغادي على متن ضامر
تشابه نسيم الريح مثل الشهاب
إذا جيت للتمرلنك بلغ رسالتي
أيا ريت عمره ما يشوف نكاب
وقل له قال الأمير أبو علي
أمير ابن أمير من فروع أنساب
ألا يا ملك اسمع مقالتي وقصتي
وفز بنفسك من ملوك أعراب
وافهم كلامي لاتزيد عتاب
وتوقع بأوشم شومها وانكاب
فان طعنتي أسلم بروحك وعزوتك
من قبل ما تعلق بكم نار حربنا
فلما فرغ حسن من كلامه طوى التحرير وختمه وأعطاه إلى عبده، فأخذه وسار إلى التمرلنك وأعطاه التحرير، فقرأه فغضب غضبا شديدا وسحب السيف وضرب العبد طير رأسه، وقال لقومه غدا يكون آخر أيام بني هلال، فوصل الخبر للأمير حسن فغضب غضبا شديدا، وشاور الأمير أبو زيد على هذا الأمر فأجابه هاتوا لنا ثمانين ألف جمل وحملوها ترابا ناعما، ويركب مع الجمال ثمانون أميرا والعبيد تسوقها من الوراء ونركب نحن والله يعطي النصر لمن يشاء، فاعتمدوا على هذا الرأي ولما أصبح الصباح ركب الأمر أبو زيد بقومه التسعين ألفا والقاضي بقومه والأمير دياب بقومه، والأمير حسن بقومه ومشوا الجمال بعدما حملوها ترابا، وقال أبو زيد للذي مع الجمال إذا انكسرتم تعالوا صوبنا، ثم أنهم دقوا النوبات وطلبوا للقا والثبات، فلما سمع التمرلنك صوت الطبول دق طبله وركب بقومه، فهجمت الأعجام بالمدافع وكان عددها خمسمائة مدفع، فعندها لكزت بنو هلال الجمال على المدافع فجفلت من صوت المدافع، وكثر الصياح من وراء الجمال والعبيد تشكهم بالرماح وفزروا عدول التراب وهب الهواء وثار العجاج والغبار حتى عميت الأبصار، فركضت الجمال وداست الأعجام وخيلها، وحينئذ هجمت الأعراب الأسود وطعنوا الصدور والكبود، فلما نظر التمرلنك إلى ما صار في قومه أراد الهرب، وإذا بالأمير صبرا ابن أبو زيد عارضه في الطريق وصاح به، إلى أين يا ابن ألف قرنين فالتقاه التمرلنك بقلب مثل الصخر، وتجاولا في الميدان وتكسرت بينهما العيدان ثم هجم التمرلنك على الأمير صبرا هجمة الأسود وحمله على راحة زنده فتعلق صبرا بخصمه وسحب الخنجر وطعن به التمرلنك فعندها مالت العرب على العجم وما سلم منهم إلا كل طويل عمر، وفاتوا على خزائن التمرلنك وغنموا الأموال، وفرقها الأمير حسن على العرب وأحضر قوم التمرلنك والوزير دخان وجعله ملكا عليهم ومن بعدها ارتاحت العساكر من الحرب والصدام وأقاموا عدة أيام ورحلوا إلى أرض حلب.
انتظرونا فى الجزء السابع
مع قصة الخزاعي والملك بدريس بحلب
مع قصة الخزاعي والملك بدريس بحلب
تعليقات: 0
إرسال تعليق